الحمل الوديع
ق . ق ~ الحمل الوديع
الكاتب ~ فاضل العذاري ~ يكتب...
«««««««««««««««««
الحمل الوديع
منذ اليوم الأول الذي وطأت فيه قدماي أعتاب الجامعة بعيدًا عن مدينتي الأصلية، كانت كلمات أمي المفعمة بالأمل والتشجيع، ترافقني كظلٍّ لا يفارقني، تدفعني دائمًا للمضي قدمًا والسعي نحو التميز والنجاح. ولم أنس أيضًا وصاياها المتعلقة بهشام، جارنا في السكن وزميلي في الكلية، الذي وصفته بأنه شاب بسيط وضعيف الإرادة، أشبه ما يكون بقط أعمى يحتاج إلى من يوجهه نحو الطريق الصحيح.
أخذت توجيهاتها على محمل الجد وقررت أن أكون عونًا وسندًا له في جميع الظروف. دعمته ماديًا، وأرشدته إلى المسار القويم من خلال مساعدته باتخاذ قرارات حكيمة، وأبعدته عن الانخراط في النقاشات السياسية التي تُعتبر محظورة في هذه المؤسسة الخاضعة لرقابة صارمة من السلطات خشية من تأثير الشباب المثقف والواعي على الوضع السياسي العام. ولهذا السبب، تم نشر عناصر الأمن السري في مختلف انحاء الجامعة.
عندما شعرت برغبته القوية في الوصول إلى المناصب العليا داخل هيكل التنظيم الحزبي، نصحته بضرورة الابتعاد عن الحزب الحاكم وما يتطلبه من ولاء مطلق. فالسعي للتقدم في هذا الحزب يتطلب خيانة وتقديم تقارير قد تؤدي إلى فقدان أرواح بريئة. لم أشعر بالراحة التامة إلا بعد أن منحني وعدًا صادقًا بعدم الانزلاق في فخ ذلك الطريق المظلم، أو حتى التفكير فيه على الإطلاق.
كان السكن الجامعي الذي جمعني بهشام وثلاثة زملاء آخرين حسن، قاسم، وقحطان هادئًا في الغالب، يخلو من الأحداث المثيرة. لكن كل شيء تغير في تلك الليلة التي اهتزت فيها الجامعة بأسرها بسبب خبر اغتيال ضابط أمني رفيع داخل الحرم الجامعي. كان هذا الضابط سيئ السمعة نظير مداهماته المتكررة واعتقالاته العشوائية التي غالبًا ما كانت تترك مصير الضحايا مجهولًا خلف القضبان.
كنت أقف عند نافذة الغرفة أتابع زملائي وهم يلعبون كرة القدم في الساحة عندما قطعت صفارات سيارات الأمن السكون. انتشرت الفوضى سريعًا، وعمّ الصراخ أرجاء المكان، أعقبته أصوات أقدام أفراد الأمن وهم يقتادون حسن بالقوة دون أدنى تفسير أو مبرر لكن حينما هرعت في حيرة وخوف إلى هشام لأخبره بما حدث، تلقى الخبر بهدوء غير مألوف وكأنه على علم مسبق بما سيحدث، كما لو كان يسلط الضوء على ما يحيط بالمشهد من ظلام قائلاً بنبرة جافة تحمل في طياتها بعض الشكوك:
- ربما تورط في شيء انتقامًا لأبيه الذي أعدمته السلطات بسبب معارضته للنظام.
في الواقع، لم يكن لحسن شخصية واضحة؛ فقد كان غامضًا ومنعزلًا، بعيدًا عن الأضواء. لكن الغموض لم يتوقف عنده، فبعد لحظات قليلة اختطفت الحملة قحطان أيضًا، ذلك الشاب الهادئ والخجول الذي لم يكن له أي صلة بما يثير الريبة والشبهات. بدا أن الاعتقالات كانت موجهة بعناية، وكأنها ضربات محسوبة بدقة.
وبينما كنت أحاول استيعاب ما يجري، اقترب أفراد الأمن من غرفتنا وهم يهتفون باسم هشام بصوت عالٍ. ارتعدت وشعرت بمسؤولية تجاهه، كنت أخشى أن يكون قد تورط بشيء دون قصد أو ارتكب خطأ بحديث يتعلق بالسلطة بسبب طبيعته البريئة، حاولت تبديد قلقه وقلت:
- لا تخف، سأكون لك درعا واقيا للدفاع عنك حتى لو كلفني هذا الأمر حياتي.
لكن الصدمة الأعظم حدثت عندما داهم أفراد الأمن الغرفة بشكل مفاجئ، منادين باسمي الكامل بينما كانت فوهات أسلحتهم موجهة نحوي، وكأنني المتهم الرئيسي في عملية الاغتيال. التفتُّ مذعورًا نحو هشام، أبحث بين ملامح وجهه عن تفسير منطقي يخفف من وطأة الموقف أو كلمة تطمئنني وتبدد الرعب الذي اجتاح كياني. لكنه لم يتحرك من مكانه؛ جلس بهدوء غريب ينذر بالخطر، وعلى وجهه ارتسمت ابتسامة مبهمة، مليئة بالمكر والخداع، لم أعهدها في ملامحه من قبل. كانت تلك اللحظة بمثابة طعنة غادرة مزقت فورًا كل خيوط الثقة التي جمعتنا ووصلت أعماق روحي دون سابق إنذار.
وبينما كانوا يقيدون يديّ ويقتادونني نحو سيارة الأمن، وجدت نفسي غارقًا في أمواج الذكريات. مرّت أمام عيني مشاهد مفعمة بالتضحية والإخلاص التي قدمتها لهذا الصديق. لكن الحقيقة التي تجلت أمامي كانت أفظع من الخيال: هشام لم يتخلَّ يومًا عن حلمه بالانتماء للحزب الحاكم، مهما كان الثمن. كان اندفاعه الأعمى نحو السلطة، مدفوعًا برغبة مستعرة لتعويض شعوره بالنقص الداخلي، كفيلًا بإسكات أي إحساس إنساني أو اعتبار لروابط الصداقة. لم يتردد في التضحية بكل شيء، حتى بأقرب الناس إليه، ليكشف في النهاية عن وجه ذئب مفترس، كان يخفي ملامحه الحقيقية خلف قناع حمل وديع.
فاضل العذاري/ العراق
تعليقات
إرسال تعليق