أنَّى لي بعِمَامةِ أبي



 ق.ق ~ أنَّى لي بعِمَامةِ أبي

الكاتب ~ منير محمد أحمد~ يكتب...

«««««««««««««««««««

أنَّى لي بعِمَامةِ أبي

                                                       ---------------

لا أدري لماذا، كلما لاح لي النيل، سرى في خاطري طيف ذلك اليوم البعيد...


كنت طفلًا صغيرًا، بالكاد أُرى حين أنزل إلى قاع القارب الخشبي المصنوع من أضلاع السنط، تلك الشجرة العتيقة التي تعمّر ضفتي النهر.

اصطحبني أبي، والقارب يشق بنا عباب الماء فوق صفحة النيل الرقراقة، كأنها مرآة عظيمة ألقيت وسط حديقة مترعة بالألوان.

كان أبي، بعمامته البيضاء الناصعة، يبدو لي كملكٍ متوّج على عرش النهر، بما يزخر به من حياة، ويفيض فيه من أسرار.


كنا نقصد جزيرة "مسكيت" (MISSKATE) لجلب حِزَم القصب ولفائف اللوبيا التي نعلف بها أبقارنا بعد موسم الحصاد.

كان المركب ينزلق فوق الماء كشهابٍ يخترق سماءً زرقاء صافية لا يشوبها غيم، والرياح تشد الشراع بكل ما أوتيت من عزم.

أما أبي، فبقبضته المحكمة، كان يمسك بالدفة بثباتٍ مهيب، كمن ينازل الريح دون وجل، كي لا يجرفنا التيار العنيف.

كنت أجلس إلى جانبه، أتأمل النخيل المصطفّ على الضفاف، يقف بخشوع، تغمره رهبة اللحظة وعظمة الصمت، يلوّح بجريده المتدلي، تحيةً وإجلالًا.

الطُّيورُ تُزَقزِقُ فوقَ الأشجارِ،

الصِّبيةُ يمرحونَ في المياهِ الضحلةِ،

ونِسوةٌ يَردنَ الماءَ.

أما أنا، فأذوبُ نشوةً وسرورًا، كزهرةٍ صغيرةٍ تبتسمُ تحتَ شمسِ الرحمةِ.


وما إن توسطنا المسافة بين الجزيرة والقرية، حتى انكسر الصاري — عمود الخشب الذي يستند عليه الشراع — تحت وطأة الرياح العاتية.

ارتجف القارب كقلب طفلٍ فزع، واضطربتُ رعبًا، وتملكني خوف أن ينقلب بنا في النهر.

لكن سرعان ما نزلت السكينة على قلبي، فقد كان يقيني راسخًا بأن أبي لن يتركني أغرق، بل سيحملني فوق ظهره إلى بر الأمان، كما اعتاد حين نعبر الخور الصغير الذي يفصل مزرعتنا عن الجروف.


بهـدوءٍ مريح، سلّمني الدفة وقال:

"لا تدعها تميل بك!"


ثم فكّ عمامته، ونزعها كما ينزع جنديٌ درعه ليقاتل بيدين عاريتين،

ربط بها الصاري المكسور، ولفّه بإحكام، كما يجبر طبيبٌ ماهر كسرًا مركبًا.

انتشل الشراع المثقل بالماء، أسنده إلى كتفه القوي، وأعاده إلى موضعه، وثبّته بقوة.


استقام القارب...

سكنت الريح...

ونجونا !


فإن أنسَ، لن أنسى تلك العقدة التي شدّها يومها؛ وكأنها ربطت في قلبي الطمأنينة والثقة إلى الأبد.

ولن يغيب عن بالي أنني نجوت، لا بقوة القارب، ولا برحمة الرياح، بل بصلابة أبي ورباطة جأشه، الذي كان لي وطنًا وسندًا وسرًا لكل نجاحاتي.


كبرتُ، وتكاثرت العثرات...

وكلما ضاقت بي السبل، أغمضت عينيّ، وأمضيت أبحر في خيالي أفتّش عن أبي، عن يديه، عن صمته المبين.

أستنجد بحكمته، وأتشبث بيقينه حين يتهاوى كل شيء من حولي.

ثم أهمس لنفسي خاشعًا:

إن كان الموت قد غيّب أبي، فأنّى لي بعِمَامته !


    منير محمدأحمد محمد 

    السودان

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الحمل الوديع

أشواك للبيع