حفريات نفسية:
الأديبة / أناستاسيا أمال / تكتب
حفريات نفسية:
الجلسة الأولى:
"من أين أبدأ دكتوره؟"، "من أي مرحلة شئت؟"، "اعطيني الكلمة المفتاحية لأستطيع ولوج شبكة حياتي المعقدة، هي ترسانة مشاعر بإمكانها الانفجار إذا لمسها حرف واحد، نظرة واحدة، حركة واحدة"، " ألا تعرف كيف تعبر عن مشكلتك النفسية يا سيد، أم أنك إنسان سوي، وتريد إماتة دقائق فراغك هنا ومعي، فهل تراني أستحق ذلك منك"، " من فضلك دكتوراه لا تسيئي فهمي، أنا هنا أبحث عمن يعيرني سمعه، لأفضفض له، لتكون لي فرصة التنفيس عن بؤرات أزماتي النفسية"، " لا بأس إذًا تفضل اعلمني بمشكلتك الأساسية"،
"ما يخيفني أنّني دائما "بخير"، يقرّ بها لساني ويوهم كياني ليعتقد أنه كذلك، ولكنني عكس ذلك، هذا ما سبب لي الحيرة والإحباط في الآن ذاته."، " وماذا أيضا أكمل لا تتوقف لئلا تشتت تركيزي ؟!"، " الحبل الذي يربط بين نفسي وعقلي حافل بالعقد؛ أبرزها عقدة الفشل، الخوف، الخجل من كل شيء حتى من النظر إلى وجهي في المرآة."، " وما سبب ذلك يا سيدي؟!"، " لو كنت على دراية به ما كنت قاعدا هنا أمامك، وراجيا عونك ونصحك"، " ما عساي أقول لك، إنك إنسان غريب الأطوار، وفي داخلك ملاحم تعدت الإغريقية إلى أبعد حد، والسبيل إلى تجاوزها بانتصارك فيها."،" أهاه هذا ما أنتظره منك، أن ترشديني إلى الحل المناسب للظفر بذلك الانتصار"، " للأسف لا أستطيع تقديم العون لك، لأنك أنت طبيب نفسك، ولا أحد يستطيع إنقاذها أكثر منك، فقط سأدلك على أول خطوة تنطلق بها على أرض العلاج؛ اقنع نفسك أنك ستكون بخير، وليس العكس....."
يتبع.......
أناستاسيا آمال
حفريات نفسية(02):
الجلسة الثانية:
بحثتْ في ملفه بعدما غادر، وفي ساعات متأخرة من الليل، وبعد مضي يومين زارها، وقعد على الكرسي قائلا" أن أقنع نفسي أنّها ستكون بخير، هذا ضرب من المحال، لأنني لا أستطيع التحايل عليها فأفقدها الشفافية التي كسوتها بها طيلة مدة وعيي وإدراكي لنفاستها بالنسبة لي، صراحة هي أميرتي المدللة، ولها حرية التصرف في كياني"، ردت عليه:
" ألهذه الدرجة تعشقها، أنا هنا يجب أن أحذرك من العواقب، إذا تماديت فيما أنت فيه من نرجسية، لنتوقف قليلا عن الطواف حول حالتك فقد تجاوزنا الحد المسموح به، ولنشرع في الحديث عن طفولتك، كيف كانت؟!، ما الذكريات المميزة التي ورثتها عنها؟"، قال: "صدقيني لا أتذكر منها شيئا، ربّما لأنها لم تكن سعيدة، أو كانت كذلك لدرجة نسياني لها، فأنا من طبعي تجاوز أي شيء سعيد بسرعة، لأنيخ راحلة ذكرياتي عند باب الحزين، ولا أفارقه نظرا لكرم ضيافته لي" ، قالت له:" أرجوك يا سيدي اذكر لي ولو حادثة أو ذكرى بسيطة يمكنني البدء منها في تحديد مشكلتك، ألديك إخوة وأخوات، كيف علاقتك بهم، بهن، بوالديك؟!"، فكر لبرهة من الزمن مستلقيا على الأريكة مغمض العينين، ثم فجأة انهمر الدمع من عينيه، وسال الدم من أنفه، وهو يواصل عيش النقطة التي كانت منعرجا حاسما في حياته، فتوجهت صوبه بمنديل وحاولت بحذر مسح ما سال منه، لكنه خض، وشده بقوة من يدها منظفا محياه، خاطبته مشفقة على حالته:" هذه جلستي الثانية معك، ولتوي بدأت أحيط بجوانب معاناتك يا سيد شواظ، وهذا الاسم ربما يكون منه المنطلق"، لكنه لم يكن يعي ما تتفوه به، حمل معطفه وغادر متأثرا بما تذكره، لحقت به عند السلالم قائلة:" حبذا لو في الجلسة القادمة تكتب لي ما عجزت عن البوح به، أنتظرك غدا في نفس الوقت"، ثم عادت إلى مكتبها، ألقت نظرة من النافذة عليه، وقالت بأسى ولوعة:" كم كنت المفضل بالنسبة لي، يا ابن أعز صديقة علمتني معنى الوفاء والإخلاص، وأطعمتني ألذ وأشهى أطباق الصداقة والمحبة، فليتك تخبرني بما حدث لها، وكيف فارقت الحياة وهي في مقتبل العمر؟!..."
يتبع........
أناستاسيا آمال
حفريات نفسية(03):
الجلسة الث.......ثة:
لم يعد شواظ إلى العيادة منذ تلك اللحظة التي جمعت بين ماضيه وحاضره، وبقيت الدكتورة تنتظر في زيارته لها لأسبوعين، ثم تشجعت وقررت مفاجأته في بيته، دونت عنوانه، وقصدته بسيارتها، لما وصلت دقت على الباب المفتوح لعدة مرات وانتظرت الإذن من أهله، لكنها لم تلق أي رد، استغربت كثيرا، واتجهت صوب أقرب جار، استفسرت منه عن شواظ وعائلته، فأعلمها بغيابهم منذ أسبوع إلى وجهة مجهولة، فسألته بحرج عن مدة وجوده بجانبهم، قال لها:
" قبل وفاة الأم بسنتين"، فسعدت، واستفسرت عن سبب موتها، قال:" كانت نائمة بجانب ابنها الذي يصغر شواظ بعامين، حتى شب حريق مهول في الشقة، يقال أن سببه هو ابنها شواظ الذي كان يلعب بشمعة ووضعها على الفراش، لتلتهم شعلتها الصغيرة كل شيء"، صعقت وسألته:" أماتت هي فقط أم ولدها أيضا، وماذا حدث لشواظ؟!، رد عليها:" نعم ماتا معا، ولا نعلم كيف كتب عمر جديد له"، ربما، لأنه غادر إلى الشرفة في الوقت المناسب، وهو يطارد فراشة، لقد كان يحبها كثيرا، بحسب ما صرح به من أنقذه في الوقت المناسب"، تحسرت كثيرا على ما حلّ برفيقتها سوسن، وبمأساة ابنها الناجي، ثم قالت:" وما ردة فعل والده؟!، هل تقبله بعدما سببته طفولته؟!"، قال:" إييييييه يا سيدتي، هذا السؤال يجب أن توجهيه إلى من يحبر لك الإجابة عليه بأنفاس حارة، ودموع منهمرة، وتنهيدات تدك خبت النفس دكا"، فذعرت من رده، وطلبت منه عنوان الأقارب الذين يقصدهم شواظ، أو أحد أصدقائه المقربين، فابتسم مستخفا بها وقال:" تقولين هذا لأنك تجهلين ما حلّ به بعد الحادثة، الجميع صار يسميه اللعنة، ويتطير منه ومن الاحتكاك به، لأنه - وبكل صراحة - أينما حلّ أحرق بشؤم اسمه كل شيء، وعليك أن تجربي لتتأكدي"، فازدادت مخاوفها، وأسرعت إلى العيادة، لتجدها تحترق، سألت رجال الإطفاء عن السبب، فقال لها القائد: "سجارة مستهتر رميت على الستائر، فأحدثت هذا الخراب، ولحسن الحظ أن مكتبك وملفات المرضى، وباقي العتاد لم تلحقه ألسنة النار لأننا كنا أسرع منها إليه" ، فقدمت لهم شكرها وحديث الرجل يتردد في مخيلتها....."
يتبع........
أناستاسيا آمال
حفريات نفسية(04):
الجل..........سة الأخيرة:
بعدما أغلقت مكتبها ذهبت إلى منزلها، فوجدت زوجها بانتظارها عند سفرة الغذاء، لم تخبره بما حدث، وتناولت معه الأكل سعيدة بحبه المثالي لها رغم عقمها، ولما غادر إلى عمله، استلقت على الأريكة وفكرها مشدود إلى ذلك الشاب، فتساءلت ترى كيف حاله المسكين وهو يعيش في أزمات نفسية عميقة بعمق الفارق الزمني بين ماضيه وحاضره، وشعرت بانقباض في صدرها فقصدت الحديقة العامة، وشرعت تتنزه فيها لبرهة من الزمن، متجولة بين أشجارها، حتى لمحته من بعيد، لم تصدق عينيها، ففركتهما عدة مرات، وقالت:" إنه هو بالتأكيد"، تشجعت عازمة على التحدث معه، قعدت بجانبه وهو شاخص البصر في البحيرة، فتأملت في ملامحه التي ارتسمت عليها صورة صديقتها، بالرغم من شحوب وجهه الذي غطت اللحية معظمه، وغور عينيه، وهزال جسده، فخاطبته بصوت حانٍ:" كيف حالك بني"، متجنبة قول شواظ لعقدة هذا الاسم بالنسبة له، فلم يرد عليها، مواصلا شروده، أصرت على التحدث معه وهو لا يبالي بها لمدة ربع ساعة، ولما همت بالانصراف، قال لها:" كيف تجرأت على القعود بجانبي، ألا تخشين من الاحتراق، ولكن اطمئني لقد اخترت مكانا آمنا إذا شب حريق، فماء البحيرة كفيل بإطفائه"، ردت عليه:" إذن كنت تعلم أنني سأصل إلى عقدتك النفسية، التي أجدت في إخفائها عني، بذلك القناع سريع الانكسار"، قال:" ليته لم يتسم بذلك، فبارتدائه أمارس حياتي بشكل طبيعي بمنأى عمّا علمته لحد اللحظة، إنّ مهمة لجوئي إلى مساعدتك أنهيتها في الجلسة الثانية، فلم تصرين على اللحاق بي؟!، هل أنت مدينة لي بشيء؟!"، أجابته:" نعم مدينة لشخص عزيز علي وعليك بكل شيء وصلت إليه الآن، إنها الغالية سوسن أمك"، اغرورت عيناه بالدمع وتأوه كثيرا قائلا:" تقصدين من قتلتها بغبائي وحمقي"، قالت:" كنت صغيرا للغاية يا بني"، قال بغضب:" بل قولي يا شواظ، بدأت لعنة اسمي من أمي وأخي، لقد حفر في روحي خندقا، لا بل جبا عميقا من الألم واللوعة والقهر، ولن يرجمه أي شيء حتى موتي، فبعده تبقى ذكريات مأساتي تتداول على الألسن.....، قاطعته:" لا يا بني، لا دخل لاسمك بما حدث لك، أتعلم ماذا قالت لي والدتك وهي حامل بك؟!، قالت:" سأسميه شواظ، ليكون لي قبس ضياء عند ظلام حياتي الحالك"، فظهر قوس الدهشة على محياه قائلا:" وكنت عكس ذلك، لم تر مني إلا الهلاك، هيا ابتعدي عني دكتورة وإلا فقدت حياتك وأنت تحاولين إنقاذ حياتي...."، فجأة وهو يواصل رثاء نفسه لها، سقطت طفلة في البحيرة الموحلة، فشهقت أمها طالبة النجدة منه، ليرتمي بلهفة فيها وينتشلها من العمق، فالتصقت قدماه فيه، أخذت الدكتورة تطلب في النجدة، فقال لها مبتسما:" ربما ابتلاع الوحل لي هو الحل الأمثل لنجاتي من حفريات نفسي التي لم ترحمني يوما، شكرا جزيلا لك يا خالة، وسأخبر أمي بوقوفك إلى جانبي، وداعا..." وفارق الحياة، تاركا لها بذرة عقدة نفسية ربما لن تشفيها مجريات الحياة.......
أناستاسيا آمال
تعليقات
إرسال تعليق