طوق النجاة(١/٢/٣ )
الأديبة/ أناستاسيا أمال / تكتب
طوق النجاة(01):
لطالما ركزت فيما أكتبه على الحالة النفسية للمحرك الأول لحيثيات النسيج القصصي، وهذا منطلق مني لأجسد النسخ التي تجد حاجزا بينها وبين من تتواصل معهم، وهي فئات تحتاج لمزيد من الاهتمام والرعاية الإنسانية قبل كل شيء....
...... هي قصتي بدأتها بنقاط متتالية تمثل العقد التي اعترضتني فيها، وكم كانت كثيرة ومثيرة في آن واحد، لم أكن أظهر كما أبدو، لكنني ظهرت ولمدة طويلة جازفت دون أن أضع عنوانا لخطواتي، ويالها من خطوات، لطالما تاهت وضاعت وتمايلت بكياني الولهان فلم أجن من سيري إلا الإقدام إلى الوراء، فكيف انطبعت في مخيلة قارئي يا ترى؟!
عار من الانتماء لسنوات، متجاهلا طهارة طيني، مشيت أميالا وأميالا، متجولا في البرّ والبحر والجو علّني ألتقي بمن يصفعني بقوة لأستفيق من الضياع الذي أقطن في خيوطه المتشابكة، فمضى شخصي يحاكي ظلّه وهو منطويا تماما على ذاته، وما تحويه وتحتويه، فلا حنان يجتاحني فيذيب تجمّد أشجاني ويعيد لقلبي نبضانه الطبيعي، فقد غدا لا يقوم إلا بوظيفة بث الحياة في الجسد الذي جفّت ينابيع الحبّ في كامل خلاياه، لقد اسودّ كل شيء في ناظري وماثل لونه لون الفحم الذي انعكست عليه أشعة الشمس، حتى ساقتني قدماي وأنا أبكي كطفل صغير إلى عمي، فنقلت له حالتي، ربما يهديني الدواء الذي ينقذني من الهلاك، فأعلمني بحقيقة فشلي في البحث عن ذاتي، واقترح علي الحل في مواصلة الترحال والتنقل من مكان لآخر حتى أعثر عليها، ونصحني بتجنب صديقيّ المخلصان لي، واللذان آنساني في أوقات وحدتي وغربتي؛ إنهما الخمر والتدخين، ودلني على ضرورة إيجاد صديق لي من بين البشر، لأتجاوز نسيان إنسانيتي خلال ما تبقى لي من سني عمري.
فوقفت عند الباب وقد أزحت عن كاهلي بعض الثقل وقلت له:" ليتني فقط عندما أقصدك وأنا على حافة الهاوية، أجدك مصغيا وناصحا فمنقذا، وحملتني خطاي مباشرة إلى المطار وحجزت مكانا لي في أول طائرة متجهة إلى إحدى الدول السياحية، ليشاركني وأنا على متنها في الجوار عجوز متقدم في السن، هذا على يميني، أما على يساري فطفلة قد أمّنتني أمها عليها، وجلست في الخلف مع زوجها، وانطلقت الرحلة، وأنا مستلقيا على الكرسي ناداني العجوز، وطلب مساعدتي في كتابة رسالة الكترونية يعبّر فيها عن حبه لزوجته وأبنائه، فاندهشت ولبّيت له طلبه، حاولت منحه الكلمات الموحية بالحب والحنان والاشتياق، فعجزت عن ذلك، ولم أجد عندي سوى عبارة:" كيف حالك وحال الأولاد؟، ولزمت الصمت، فخاطبني مستغربا:" أهذا ما جادت به قريحتك يابني، لمّا رأيت الشباب يسطع من بشرتك وسواد شعرك، ركنت إلى النشاط الذي فارقني وأنا أسقط في أوراق عمري الآيل إلى الزوال، لكنك خيّبت رجائي فيك، وأسند ما فشلت في إنجازه إلى الطفلة، فأثلجت له صدره، وأنا أتأمل فيما يجري حولي والغيظ يلتهم كياني ويعصف باستقراره، فالأدوية عجزت عن لملمة تصدعاته، فاغرورت عيناي، حتى قالت لي تلك البراءة التي بجانبي:" يا عم هل ترسم لي منظرا طبيعيا في فصل الربيع، حينها حاولت إيجاد بعض آثار البراءة في ذاتي المنكسرة، وتوغلت في البحث عن أغوار طفولتي الضائعة في بواطن الحياة، فلم أجدها، حملتُ القلم ومسكتُ الورقة بيدٍ مرتجفة، وحاولت رسم أيّ شيء يدل على الحياة في الربيع، فرسمت دائرتين متلاصقتين، وفي وسطهما خط مستقيم طويل، وفوقه نقطتين، وكتبت أمام الرسمة فراشة، ثم رسمت أوراق شجرة متساقطة على الأرض، وسلمتها الورقة، فسألتني:" عمي، هل الأوراق تتساقط في الربيع؟!"، فأجبتها خجلا:" بل في فصل الخريف"، ابتسمت وشكرتني بقولها:" أتعلم يا عم إنها لوحة جميلة ومعبرة، شكرا جزيلا لك"، فأزالت بكلماتها الشحوب عن وجداني النحيل، فتنفست الصعداء، واضعا رأسي على الكرسي لأنعم بنوم ولا ألذ منه، واستمرت رحلتي..........
يتبع.......
أناستاسيا آمال
طوق النجاة(02):
في قرية بمنطقة القبائل، أعدّت سهى أطباق الحلوى، وزيّنت البيت مع أمها وإخوتها، سعداء بمصاهرة سهيل لهم، وفي المساء جاءت عائلته وتقدمت لخطبة سهى، التي وافقت والفرحة تعتريها، وكما هي العادة وضع الشاب مبلغا من المال على الطاولة، ليحمل أبوها ما تيسر منه فقط قائلا:" بالبركة عليك يابني، فقط أعلمني بموعد الزفاف لنحضر له معا"، رد عليه:" أنا الآن متجه للخدمة الوطنية، وبإذن الله بعد عام وستة أشهر"، قال له: إن شاء الله، ندعو الله أن يردك سالما معافى"، حينها نظرت سهى إليه من طرف خفي قائلة:" أرجوك عد إليّ بخير، فنظر إلى النافذة ولمحها، ابتسم لها ابتسامة صارخة بوعده لها بالعودة.
أما السائح المتجول فوصل إلى البندقية في إيطاليا، قصد محل بيع المجوهرات، وقال له:" من فضلك هل تصنع لي خاتما تنقش عليه اسمي؟"، رد عليه:" بالطبع سأصنعه لك، فقط ما اسمك؟"، قال: "وليام"، ابتسم له قائلا:" إذن أنت سائح في هذه المدينة، هاه ما رأيك فيها؟"، قال:" أتصدقني إذا قلت لك أنّني لا أشعر بأيّ تغيّر هنا، تماما كأنّي في إنجلترا ببلدتي، أو في باريس، أو طوكيو، أو في تكساس"، نظر إليه باستغراب، وقال:" بعد ساعة ونصف ستجده جاهزا"، قال:" بهذه السرعة!!!!، شكرا لك"، وغادر ، استعار قاربا وتوغل في بحيرة البندقية، تجوّل فيها لبرهة من الزمن، ثم قصد محل الأكل السريع، تناول الغذاء، وقصد المحل ليجد الخاتم قد أتقن صنعه الصائغ، شكره وأعطاه ضعف ثمنه، وانصرف مباشرة إلى الفاتيكان، اختار كرسيا في الحديقة، وارتدى الخاتم ملازما مشاهدة المتنزهين فيها، ونصيحة عمه لا تفارق أذنيه حتى خاطب نفسه:" كيف سأجد صديقا لي من بين هؤلاء البشر، وأنا لم أنجح في إيجاد نفسي بعد؟"، ثم طأطأ رأسه سائما من المكوث هناك، وغادر مباشرة إلى المطار واضعا نصب عينيه مدينة لاس فيغاس متلهفا للترفيه والمتعة والتسلية، وهناك ظن أن الهموم والأحزان تتبخر بارتمائه بين أحضان الخمر، ولعب القمار، ومجالسة النساء الوضيعات، وأنّ ذاته سيلتقي بها في تلك القذارات، لكنه لم يجن من ذلك إلا ملازمة الفراش وهو في أسوء حال، والطبيب يبذل قصارى جهده في إحياء ثقته بنفسه من جديد، وبمضي أسبوع غادر الفراش محاولا شكر معالجه بالنظرات الامتنان وحسب، فاتجه إليه، وشده من ذراعه قائلا له:" اسمع إنّك في سن ابني جورج؛ لذلك أحرص على نجاتك من براثن الذئاب المتربصة بالتائهين أمثالك"، ابتسم مطلقا تنهيدة من مدفع الألم ورد عليه:" إن الذئاب التي تنهش في نفسي أشدّ وحشية من التي تتحدث عنها، لذا تجدني دائما أحيا في الكوابيس والأوهام، وأحرص على رمي نفسي في التهلكة لأضع حدا لما أنا فيه"، ذهل الطبيب في مدى قنوطه وودعه متمنيا له السعادة.....
أما سهيل فصابر على الشقاء الذي صادفه خلال التدريبات متحمسا للقاء الأحبة، غير مبالي بالبرد الذي يشل الأوصال، والجوع الذي يؤانسهم، وهم يتنقلون بين الجبال، وسهى شرعت تجمع في جهازها وتحلم بالغد الواعد من جهة، ومحافظة على نشاطها في نسج كنزة وقفازتين لخطيبها من جهة أخرى، وما إن أنهتهما أرسلتهما له، فقفز سعيدا، وارتداهما خاطا لها رسالة شكر بمداد المحبة والمودة......
فكّر وليام لبرهة وهو في ردهة المطار، وقال:" لماذا لا أقصد إحدى الدول العربية، هكذا أغيّر نمط الحياة تماما، وهو يفكّر في أيّهم يختار كوجهة له حتى خاطبه من الخلف:" هل ترغب في مشاركتنا الجولة التي سنقوم بها إلى جبال الطاسيلي بالجزائر ؟" التفت إليه ليجده قائدا لثلة من السياح، فابتسم بسخرية ثم ضحك بشدة قائلا:" وهل ستجدون المتعة في صخور صمّاء تحيط بها كثبان رملية، وشمس تلفح الجلد وتفقد الوعي، وتزرع الموت، أو تسوق إلى سراب يطول المكوث فيه؟!"........
يتبع........
أناستاسيا آمال
طوق النجاة(03):
بعد إلحاح مطول من الجماعة، اقتنع وليام بمرافقتهم، وبمسافة الطريق وصلوا إلى وجهتهم( تاسيلي ناجر، بإليزي في الجنوب الشرقي للجزائر) والسعادة تغمرهم، رحّب بهم أهالي المنطقة، وقدموا لهم كلّ ما يحتاجونه، فسأل وليام القائد( جاك):" هل أجد حانة هنا؛ إنّني أحنّ بجنون إلى الخمر"، امتعض مما سمعه وقال له بنبرة غضب:" تماسك يا رجل، أنسيت أنّك في منطقة محافظة، اصبر حتى نقصد مدن أخرى في الشمال، حينها سأحقق لك رغبتك، رد عليه سائما:" إذن أرجو أن تقصر مدة مكوثنا هنا، وقصد مع الدليل بحيرة صغيرة، أين جلس بمحاذاة الصخور، وأخذ يتأمل في صورته المنعكسة على الماء، وخاطب نفسه:" أهذا أنا؟!، لقد تغيرت كثيرا، لم أعد ذلك الطفل المدلع لدى أبيه، كما أنّني فارقت دراستي قبل التخرج بعدما سئمت من قراءة الكتب والبحث فيها، أوووه كم كنت أضجر من تلك الأوقات، وتحسس محياه براحته قائلا:" لقد نحلت كثيرا عن المرة التي رأيتُني فيها وأنا أحلق في ذقني.."، واستمر على هذه الحالة والدليل يشرح له بعض مسميات المناطق المجاورة، والأحداث التاريخية الواقعة فيها، ثم صمت عندما أبصر وليام غير مهتم بحديثه وهو يلاعب ماء البحيرة بأنامله....
وفي المساء دعاهم الوالي إلى مأدبة عشاء، وفي خيمة كبيرة سعد بلقائهم، سأله وليام:" ما سبب ضيافتكم الملكية لنا، هل تريدون خدمة منّا؟!"، ضحك كالباقي ورد عليه:" لا، لأننا مسلمون فإكرام الضيف واجب مقدس علينا الالتزام به، يبدو أنّك لا تعرف عن العرب شيء"، قال له:" بصراحة، أنا أتمتع بثقافة الإعلام الذي قدّم لنا هويتكم بشكل مختلف تماما"، ابتسم معه قائلا:" ابق هنا عدّة أيام، وستعلم بكل شيء؛ عن عاداتنا وتقاليدنا ومختلف سلوكاتنا)، فرد عليه:" لا، أفضل مواصلة سياحتي في باقي المدن الجزائرية لأكوّن صورة متكاملة عنكم"، خاطبه جاك:" هذا قرارك أما قرارنا هو ما اقترحه السيد الوالي......
بعد نوم مريح وهادئ، استيقظ وليام متناولا فطوره مع رفقائه، ثم ودّعهم مخاطبا نفسه في الطريق:" لِم حزنوا عند مفارقتي لهم، أيعقل استئناسهم بي، وأنا لا أطيق مجالسة أحد أو مصاحبته، ما الذي أوردني هذا المورد، حقا أنا بحاجة إلى من يفهمني ويجعل قساوتي تنفجر لينا ومحبة...."
سعد سهيل بحصوله على إجازة لأسبوعين، غادر مباشرة إلى متجر اشترى بعض الهدايا وأسرع إلى منزله، لمّا فتحت والدته الباب أطلقت زغرودة حارة سعيدة بعودته، ليلتف به كل أفراد العائلة في مائدة واحدة، والضحكات تتعالى بينهم - إنه أيقونة سعادتهم وفرحهم - وتمتعوا بالاستماع إليه، وهو يتحدث عن مغامراته، مفتخرا بحبه للوطن، لأنه أمانة الأجداد، وتوجب على الجميع صونها، و سهى قاعدة مع أخته في الغرفة المجاورة تلتقط في صوته بشغف وشوق، سعيدة بوطنية زوجها المستقبلي، حتى قصد أخته ليسلمها هدية خطيبته، فتفاجأ بها هناك، فاحمر وجهه، وخاطبها بصوت خافت:" هذه هديتك سهى، شكرا لك على ما أهديته لي، كم حمل لي الدفء والسعادة، كونك تحبينني وتفكرين في سلامتي، أدعو الله سبحانه أن يقدرني على إسعادك أبد الدهر، وانصرف لترتمي بين أحضان صديقتها سعيدة جدا به..
زار حصانه في الإسطبل وامتطاه مرافقا لأخيه الطاهر، وصهره علي في جولة، وهو سعيد بالمستقبل المقبل عليه مع حب حياته الذي نشأ في قلبه منذ الطفولة، حينما كانا يضعان الحبوب في الحقل معا، كثنائي مثالي............
وبعدما تسابقوا فاز الطاهر، فأقراّ بفروسيته وتفوّقه الدائم......
مضت الأيام وسهيل يسقي في شجيرات الزيتون والأمل يحذوه في الأكل منها ذات يوم، و سهى تراقبه بعينين تشعّان بالإعجاب حد الهيام، حتى دعاه والده فلبّى مسرعا إليه، وقد سقطت إسورة الفضة من يده، فحملتها، وأرجأت تسليمها له حتى يحين موعد رحيله.....
في بيته احتدم الصراع بين أبيه سعيد وعمه الذي اتّهمهم بالاستحواذ على أرضه، وأقدم على ضرب أخيه بقوة فتدخلا ولديه( سهيل والطاهر)، محاولين تهدئة عمهما حتى جاء أبناؤه الأربعة، وتعدوا عليهما، ولحسن الحظ أن حسين( أبو سهى) استطاع فضّ الشجار مع أولاده، ونقل سعيد إلى المشفى متأثرا بضربة عصا تلقاها على رأسه.....
يتبع.........
أناستاسيا آمال
تعليقات
إرسال تعليق