ابتزاز







الأديب / عزيز أمعي /  يكتب

 ابتزاز 

تعودت أن اختلي بنفسي كل صباح في مقهى لا يعرفني فيه أحد . أطلب مقهاي المعتاد، قهوة سوداء في فنجان خزفي. السيجارة والقهوة الصباحية بالنسبة للذين ابتلوا بها مثلي، لها بهجة  خاصة، فرحة ربما أعمق وألذ من فرحة لقاء  حبيب صب بحبيبته .

أشعلت سيجارة بعد أن وضع الجارسون قهوتي المعتادة  على المنضدة. ضغطت على زر إيقاظ  الحاسوب. كنت قد ودعت  الكتابة بالقلم منذ عهد بعيد، وصرت اليوم عاجزا عن الكتابة بالقلم الجاف. نفقد عادات ونكسب عادات، هذه هي الحياة.

زمن القلم ولى كما ولت أشياء كثيرة جميلة، في زمننا الموسوم بالتقانة والسرعة. ابتسمت شاشة الكومبيوتر في وجهي بأنوارها الفضية. ارتشفت قليلا من السائل الإكسيري البني، ثم ضغطت على إيقونة خاصة بالرواية التي كنت بصدد كتابتها. 

وقبل أن أراجع ما كتبته بالأمس، جاءني صوت يقول :

-السلام عليكم أستاذ .

رفعت عيني عن الشاشة ، فرأيت شابا في مقتبل العمر، طويل القامة نحيفها، يرتدي قميصا أبيض اللون دون كمين. وسروال جينز أسود اللون، وبيده محفظة. أجبت :

-وعليكم السلام.

قال الشاب :

-أعتذر أستاذ على الإزعاج، أتمنى أن تمنحوني بعضا من وقتكم، لدي موضوع مهم  أو بالأحرى مشكلة أريد أن تساعدوني في حلها .

فوجئت بقول الشاب، وتساءلت ما هي مشكلته ، وكيف لي أن أساعده في حلها .

وقبل أن أنبس ببنت شفة، سألني :

-هل لي أن أجلس؟

أومأت برأسي نعم . لم يكن من اللباقة أن أمنعه من ذلك، لكنني عقدت العزم على أن أجعله يرحل في غضون دقائق معدودة،حتى لا يضيع وقتي ويشغلني عن عملي أكثر من اللازم.

شكرني وجلس . قلت :

-هل أنت متأكد بأنني قد أساعدك في حل مشكلتك، لعلك أخطأت الشخص المناسب .

ابتسم وقال :

-لا ..لا أبدا. أنا قصدتك أنت كاتبنا، السيد أحمد سعيد أليس كذلك ؟

-بلى 

تابع:

-أنت هدفي ومقصدي، وجئت إليك لأعرض عليك مشكلتي، وبعدها يمكنك أن توافق أو ترفض مساعدتي. وإن كنت آمل أن تمد لي يد المساعدة.

قلت:

- تفضل يا 

رد الشاب :

-كريم ..اسمي كريم 

-أهلا و سهلا .

-شكرا لك أستاذ. 

صفن هنيهة ثم انطلق يحكي :

-مشكلتي سيدي، ليست فريدة من نوعها في دنيا الحرم الجامعي. بل حالتي هيا حالة من حالات لا حصر لها، تسبب المعاناة للكثير من الطلبة والطالبات. بعد حصولي على شهادة الإجازة، حاولت الالتحاق بالعمل الحكومي ، كموظف في القطاع العام. وبما أن الحكومة لا تخصص لأبناء الشعب سوى وظيفة التعليم، كأن الوظائف الأخرى  علينا حرام . جربت حظي لعدة مرات   فلم أوفق. كنت أنجح في الاختبار الكتابي وأخفق في الاختبار الشفهي، الذي يشاع عنه أن الهاتف يتدخل فيه بقوة لصالح بعض المرشحين  .

بعد أن أحبطت أكثر من مرة كما أسلفت، قررت أن أواصل دراستي،وبعد جهد جهيد تمكنت من  الالتحاق بسلك الماستر كمرحلة ممهدة للتسجيل في سلك الدكتوراه. كنت سعيدا ببدء مرحلة دراسية جديدة، ستفتح لي أفاقا ربما قد تكون  أفضل من العمل كأستاذ في منطقة قروية نائية. كان حلم الدكتوراه الوردي قد بدأ يراودني، ورأيت نفسي أستاذا جامعيا يحاضر في مدرجات الجامعة.

وحتى لا أطيل عليك أستاذ، انتقل إلى لب الموضوع. خلال السنتين اللتين قضيتهما في الدراسة بسلك الماستر واللتان لم تنتهيا بعد،أكتشف وجه آخر للجامعة، لم أكتشفه حين كنت طالبا خلال سنوات ما قبل الإجازة. ظننت قبل الانتساب لهذا السلك، أن التعليم العالي عالم لا علاقة له بما قبله. مستوى راقي وأساتذة يتعاملون مع طلبة هم في طريقهم للحصول على  شهادة الدكتوراه، كي يصبحوا زملاء لهم في المستقبل القريب.  ظننت أن الديمقراطية، والتشجيع، هو ما سنجده نحن كطلبة من قبل أساتذتنا، يعتبرون أنتيلجينسيا المجتمع. لا أنكر أن الكثير منهم كانوا في المستوى أو على الأقل منصفين، لكن البعض ، وهم قلة، كانوا يجدون متعة في تعذيبنا. أذكر على سبيل المثال لا الحصر، عدم التزامهم بالمواعيد التي يحددونها هم أنفسهم للقاء بنا لتقديم الفصول المنجزة من البحث. غيابهم عن حصص التدريس.  رفضهم أو تأخرهم لشهور لرد على الاميل، وإذا ما تصلنا بهم هاتفيا لا يردون، و إذا ما  تفضل أحدهم  و رد على الهاتف فيكون رده عنيفا، يزجرنا على إزعاجه. 

كل هذا استحملناه، وحاولنا التعايش معه، إلى أن حدث ما لم يكن في الحسبان. أمر نغص علي حياتي ، وجعلني أعيش التعاسة بعدما كنت سعيدا متفائلا على الرغم من كل الضغوطات. ما وقع أستاذي العزيز أنني وخلال السنة الأولى من دراستي بسلك الماستر، تعرفت على فتاة ، نشأت بينا علاقة عاطفية جادة، وأصبحت لبنى وهذا اسمها، الحلم الثاني الذي أريد أن أتوج به حياتي بعد أن أحصل على شهادة الدكتوراه، والحصول على وظيفة أستاذ جامعي . 

ذات يوم التقينا أنا ولبنى بأستاذنا في مكتبه لنقدم له الشطر النظري من بحثنا. كان هذا الأستاذ حين أقابله وحدي أو مع زميل لي، وقلما كان يتم ذلك يظل واجما  وجهه عبوسا قمطريرا، لكنه بحضور لبنى يتغير تصرفه معنا. يصبح ودودا لطيفا معنا وعينه لا تفارق وجه حبيبتي الجميلة. لم أعر لذلك أدنى اهتمام لأنني كنت واثقا من أخلاق لبنى، وأعرف مدى حبها وتشبثها بي .في أخر لقاء لنا به،  بعد مناقشة دامت لوقت غير قصير، ودعنا ووعدنا بأن يتصل بنا بعد الانتهاء من قراءة ما أنجزناه.  

أيام قليلة بعد هذا اللقاء، شعرت بأن سلوك  لبنى  بدأ يتغير معي، لم تعد تتصل بي كما كانت تفعل ، وحين كنت أتصل بها لنلتقي أصبحت تعتذر بحجج واهية. تساءلت ما سر تغيرها، بدأ الفأر يلعب في عبي على حد قول المصريين، وحدست أن هناك في الأمر سرا، وقررت أن  أكتشفه. 

التقيت بها ذات يوم وأرغمتها على الجلوس معي في  مكان ما لنوضح الأمور بيننا. حاولت أن تعتذر لكني أصررت. وافقت مرغمة. ذهبنا إلى أقرب مقهى. سألتها :

-ما الأمر، ما سر هروبك مني . أعرفك إنسانة صريحة، أخبرني بالأمر، مهما كان قاسيا ومؤلما  .إذا كان قلبك قد توقف عن حبي، أخريني بذلك، لا تركيني فريسة هواجسي وقلقي.

ردت لبنى بصوت حزين، لكنه صارم :

-لا زلت أحبك ، لكن ..

-لكن ما ذا ..

قالت:

-منذ مدة والأستاذ الذي يشرف على بحثنا يتحرش بي ، وحين أخبرته صراحة عن علاقتنا وعن حبي لك. أمرني بأن أضع حدا لهذه العلاقة، وإلا سينسف مستقبلك الدراسي . صرت  لا أخشى علي ، ولكن أخشى عليك، ولا أريد أن أكون سببا في حدوث مشاكل لك.

سكت  الشاب لثوان معدودة وقال :

-هذه هي مشكلتي أستاذ، مستقبلي وحبيبتي سيضيعان مني، إذا لم تسعفني بمعونتك .

قلت متأسفا على سلوك هذا الأستاذ ومستغربا في نفس الوقت من لجوء هذا الطالب إلي لكي أساعده في حل مشكلته:

-لكن ما علاقتي أنا بالأمر، وكيف لي أن أساعدك في حل مشكلتك .

ابتسم الشاب وقال :

-لأن الأستاذ المقصود هو صهرك كاتبنا العزيز. هو أخ زوجتك، ولا أحد يمكن أن يساعدني في حل مشكلتي سواك.

-عزيز أمعي

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنَّى لي بعِمَامةِ أبي

الحمل الوديع

أشواك للبيع