الفيروسات
الأديب / عزيز أمعي / يكتب
الفيروسات
كان حالة محمد استثنائية وغريبة بين كل الأشخاص الذين أصيبوا بفيروس كوفيد 19. حين نقل إلى المستشفى كانت حالته شبه ميئوس منها. السرعة التي داهمه بها المرض كانت قياسية، والأعراض التي ألمت به كانت مختلفة عن أعراض ضحايا كورونا. فإضافة إلى ارتفاع درجة حرارة جسمه، والصعوبة التي كان يواجهها في التنفس، فقد ذهب بصره وأصبح أعمى، الأمر الذي حير الطبيب المعالج .
سأل الطبيب أخاه الذي جاء به إلى المستشفى:
-هل كان أخوك أعمى ؟
رد الأخ :
-أبدا سيدي كان بصره عاديا ، ولم يشتك قبل إصابته بالفيروس الوبيل بأي مشاكل بصرية.
رد الطبيب :
-غريب، أخوك أول مريض بداء كرونا يفقد بصره .
نقل محمد إلى قاعة الإنعاش، ليخضع للتنفس الاصطناعي. كان الطبيب على يقين بأن المريض سيموت في الساعات القليلة القادمة. لقد مر به العديد من مرضى كوفيد، أكثرهم فارق الحياة، ولم ينل منهم المرض مثل ما نال من هذا المصاب الذي ارتفعت درجة حرارته إلى مستوى قياسي، إصافة إلى فقدان البصر الذي لم يجد له مسوغا أو تبريرا.
وباء كرونا، معروف بالتدرج في هزم الجسد كباقي الأمراض. تبدأ درجة حرارة المصاب في الارتفاع، ينتابه السعال، والشعور بالتعب، كلما قام المريض بمجهود ولو بسيط. وإذا لم يخضع للعلاج تتطور الحالة إلى ما هو صعب وخطير. فقدان البصر لم يكن أبدا نتيجة للإصابة بفيروس كرونا.
محمد لم يمر بهذا التدرج المرضي الطبيعي، انتقل مباشرة وفي وقت قياسي إلى المرحلة الأصعب.. طلب الطبيب من الممرضة أن تراقب محمدا وأن تنذره بأي تطور في حالته. ما كاد الطبيب يستقر في مكتبه بعد جولة قام بها في مختلف الغرف التي يتواجد بها المرضى حتى سمع طرقا على باب مكتبه . فتحت الباب فجأة ، ثم ظهرت الممرضة قالت بصوت ارتفعت نبرته :
-أيها الطبيب، المريض الذي أوصيتني بمراقبته، يبدو أنه يموت .
هرع الطبيب والممرضة تجري خلفه إلى غرفة الإنعاش. كان جسد محمد يتراقص على السرير تتقاذفه أمواج الحمى والاختناق. تقدم الطبيب منه، نزع أنبوب التنفس ليتأكد من أن الأكسجين يصل بشكل عادي إلى رئتي المريض. كان جهاز التنفس يشتغل بشكل عادي، و الأكسجين يتدفق نحو رئتي المريض. لكن تنفس محمد وبسبب خطورة حالته كان يتوقف، يضطرب جسده وتكاد روحه تزهق، لينطلق صراع مرير بين الرئتين والهواء. وضع الطبيب أنبوب الأكسجين على أنف المريض مرة أخرى، وبقي ينتظر أن يهدأ جسده ويخمد نهائيا معلنا عن مفارقته للحياة .
لكن محمدا وعلى الرغم من كل عذابات انقطاع الأكسجين وارتفع الحرارة التي أبت أن تنخفض بالأدوية والحقن، ظل متشبثا بالحياة. بعد أسبوع من حرب ضروس مع ملك الموت، طفقت حالته تتحسن. والمفاجأة التي صعقت الطبيب، ولم يتوقعها أبدا، هي استعادة محمد لبصره. كان الطبيب يراقب درجة حرارته حين قال هذا الأخير مخاطبا الممرضة التي كانت رفقة الطبيب وهو يشير إلى قنينة ماء بجانها كأس موضوعة على المنضدة :
- أريد أن أشرب ، أرجوك املئي لي ذلك الكأس.
نظر إليه الطبيب بدهشة وقال :
-أي كأس ؟
ابتسم محمد وقال :
-ذلك الموضوع على الطاولة .
-وهل تراه قال الطبيب مستغربا.
-نعم ، كما أراك وارى هذه الممرضة الجميلة.
لم تبتسم الممرضة للإطراء، ولم يفعل الطبيب أيضا . تقدم من محمد وراح يفحص عينيه. أجرى له اختبارا أخيرا ليتأكد من استعادته لحاسة البصر. انتهى الاختبار بالتسليم بأن محمدا قد استعاد بصره. عجز الطبيب عن تقديم تفسير علمي لفقدان بصر محمد وعودته فجأة .قضى المريض يومين آخرين في غرفة الإنعاش،ثم غادرها ليلتحق بالمرضى الذين تحسنت حالتهم، ولم يعد وضعهم الصحي في خطر.
ما أثار انتباه محمد وهو يتماثل للشفاء، تلك الأشياء الغريبة التي طفق يراها ولأول مرة في حياته. ظن في البدء أن عينيه تراوغانه برؤية أشياء لا وجود لها. لكن مع مرور الوقت ،تأكد له أن ما يراه حقيقة لا مراء فيها. حين جاءت سيدة لزيارة زوجها الذي كان سريره مجاور له. كانت المرأة تبدو بصحة جيدة، لكن عينا مصطفى رأت الفيروس الذي كان قد تسلل إلى جسد المرأة وهويتراقص في الأجزاء الظاهرة من جسمها كالوجه واليدين بل وحتى العينين . بعد مغادرة المرأة التي كانت سعيدة باسترجاع زوجها لصحته، سأل محمد رفيقه إن كانت زوجته مريضة بداء كرونا. استغرب الرجل من قول رفيقه وأجاب بالنفي. قال محمد :
-معذرة، لكني أعتقد أن زوجتك مصابة بالفيروس، وعليك أن تتصل بها لاتخاذ التدابير الوقائية اللازمة .
نظر إليه الرجل مستغربا و قد بدأت الشكوك تساوره حول سلامة عقل رفيقه:
-وكيف عرفت ذلك ؟
رد محمد بكل هدوء :
-رأيت الفيروس في جسدها .
ضحك الرجل وقال:
-يبدو أن مرض كرونا قد أثر عليك، وأصبحت أخشى على عقلك .
لم يجادله محمد لأنه هو أيضا شك في ما قاله للرجل، وظن أن ما راء على جسد المرأة مجرد تهيأت ليس إلا. لكن ما أن مر يومان، حتى توصل رفيق محمد باتصال هاتفي يخبره أن زوجته نقلت إلى المستشفى لإصابته بداء كرونا .
نظر الرجل إلى محمد وقال :
- لقد صح توقعك. زوجتي أصيبت بالداء الخبيث ونقلت إلى المستشفى.
لم تكن زوجة رفيقه هي الوحيدة التي تمكن مصطفى من رؤية الفيروس الخبيث مندسا في جسدها، فقد أنذر إحدى الممرضات بأنها حاملة للفيروس. سخرت منه، لكن حين شعرت بارتفاع درجة الحمى في جسدها، وأجرت الاختبار تبين لها أنها فعلا مصابة بالفيروس. أخبرت الطبيب كيف أنذرها محمد بإصابتها بداء كرونا ،ولكنها لم تأبه لتحذيره.
استغرب الطبيب لما سمع من الممرضة. ذهب لرؤية محمد . سأله كيف تمكن من معرفة أن الممرضة وزوجة رفيقه مصابتين بالفيروس، أجاب :
-أستطيع رؤية ذلك في أجساد المرضى.
احتار الطبيب في رد محمد. ابتسم وهو مقتنع كل الاقتناع بأن الرجل يهذي بما لا يعلم. حين شفي محمد نهائيا ، وغادر المستشفى إلى بيته، رصد فيروس كرونا في العديد من زواره، الذين كانوا يأتون ليهنئوه على سلامته، دون أن يعلموا أنهم قريبا سيلتحقون بالمستشفى . لم يشأ أن يخبرهم، حتى لا يلفت الأنظار إليه ويصبح حديث المدينة الصغيرة. وبالفعل، فكل أولئك الذي توقع لهم أن يسقطوا جراء إصابتهم بالفيروس، سقطوا. منهم من شفي ومنهم من مات .
كان بإمكان لهذه القصة أن تنتهي عند هذا الحد، لكن قدرات محمد تطورت أكثر، ولم يعد بصره يقتصر على رؤية الأشخاص المصابيـن، بل إن عيناه أصبحتا ترصدان بعض الأشخاص يشبهون الفيروس اللعين. نعم رجال بل وحتى نساء فيروسات، يتحركون ككائنات عجيبة تثير القرف. نسبة هذه المخلوقات العجيبة التي أصبح يراها ارتفعت في الآونة الأخيرة، لعل الحمى الغير طبيعية التي اجتاحت المدينة ، هي من جعلتهم يظهرون بقوة . كان كلما دخل إلى مقهى من مقاهي المدينة ، وجدهم جالسين يحتسون القهوة ويخوضون في أحاديث سرية، قدر أنهم كانوا يخططون للانتشار في أوصال المدينة، والسيطرة على أهلها، قبل هلاكهم . والأمر الذي كان يحز في نفس محمد ، ولا يستطيع أن يفصح عنه للناس، هو تحذيرهم من تلك الفيروسات التي كان يراها، وكانوا هم عاجزين عن رؤيتها، والتي كانت تتربص بهم وبمستقبل أبنائهم ومدينتهم .
لم يمهل العمر محمدا كي يرى، نهاية الداء، ولا مصير تلك الفيروسات الخطيرة. فقد انتقل إلى جوار ربه. أما المدينة فلازالت الفيروسات تتنافس في العبث بها وبمصير أهلها .
-عزيز أمعي
المغرب
تعليقات
إرسال تعليق