إثنان في قلب العاصفة



 قصة ~ إثنان في قلب العاصفة

الكاتب ~ صلاح ياسين ~ يكتب..

~~~~~~~~~~~~~~

إثنان في قلب العاصفة...


حل الشتاء ثقيلا باردا  على قرية الرشاد ذات النخيل المتراص في غابات ممتدة بهامات عالية وجذوع رشيقة ممشوقة كأنها معبد روماني فيما توزعت بيوت حجرية ملونة بغير انتظام كقطع متناثرة للعبة صبي على أرض خضراء... ومن الشمال زحف غمام رمادي ينذر بالمطر.... 

استيقظ الشيخ من نومه

مسح وجهه الأشيب وجد زوجته مستيقظة قبله بهمة ونشاط كما جرت العادة  منهمكة في عمل ما في الحجرة..


لقد حلبت البقرة وأعددت الفطور وأنت  تشخر... 

قالت ذلك من دون أن تلتفت اليه..

. قال لها... 

لقد رأيته في المنام....

وجمت المرأة في مكانها وكفت عن الحراك

التفتت اليه بكامل جسمها الخمسيني واقتربت من السرير النحاسي في قلق

أحقا رأيته ياعدنان؟ …

نعم.. رأيته وهو بكامل صحته بزيه العسكري

يرنو إلي بابتسامة... يالله لشد مافرحت.... وتنهد الرجل

وهل حدثته؟ كلمك؟ قال لك شيء؟

 وراحت تجلس على حافة الفراش وعيناها لاتتحولان عن زوجها وقلبها الملهوف يرتجف إضطرابا

لم يحدثني لكن بدا سعيدا... إنها إشارة من الله أنه مازال بخير...... 

صفعت الرياح الباردة النوافذ وانكفأت قدور معدنية وسقط شئ ما وركضت الدجاجات نحو زاوية في فناء البيت الترب.. . 

قامت الأم تمسح دمعها وصدرها يجيش بذكريات لاحصر لها عن ولدها الفقيد وقالت

بالأمس زرت مقام سيدنا إبراهيم ودعوت هناك

أن يهدينا الله إلى مكانه...حيث أن نساء القرية كن بصحبتها وشاركنها حزنها وبكائها وربتن على كتفها....

 استمر الطقس منفعلا في الخارج والعاصفة تزمجر متوعدة القرية بغضب عارم... 

قال الشيخ وهو يحلق منابت  الشعر على الوجه الأسمر... 

ستمطر أيضا على مايبدو والطرقات الطينة مع الوحل أصبحت لاتطاق في المرة الماضية غرست السيارة في الطين ولولا أهل الغيرة لبقيت إلى اليوم في مكانها..... 

قالت له.. وذهابك إلى بغداد ستؤجله؟ قلبي متفائل هذه المرة... 

قال لها... الله كريم.

. قالوا لي أن جميع الأسرى  الذين أخذهم الامريكيين بعد معركة المطار نقلوا إلى قاعدة عسكرية غرب بغداد...

.. عندما وصل إلى هناك أخرج لهم صورة  ملونة بحجم الكف لشاب في منتصف العشرينات وهي  مثنية من إحدى الزوايا قائلا... 

هذا إبني جميل ملازم بالحرس الجمهوري فقد في معركة المطار منذ ثمانية أشهر لانعرف عنه شيء

 أرجوك مستر... ونظر بتوسل وضراعة

. راح يتأملها الجندي الاميركي بعينين زرقاويين وملامح جامدة لاتنبيء بشيء ثم هز رأسه بالنفي ورطن بكلام لايفهمه الشيخ لكن المترجم أعاد له الصورة من الشباك الحديدي وأفهمه أن إبنه غير موجود هنا وأن عليه البحث في مكان اخر

... ويخيب رجائه مرة أخرى

ويعود حزينا كأنما زادت سمرته ونحل أكثر وشاخ سنوات..... 

رجع للقرية بسيارته المهلهلة في ذات اليوم مهموما متفكرا أين يمكن أن يبحث عنه؟ لم يذكر له مكان إلا وذهب إليه ...المعسكر القديم.. مقرات الشرطة.. المستشفيات.. المعتقلات... إرادتك يارب فوق كل شيء

وراح يشير بيديه كمن يحدث أحدا ولم ينتبه إلى عجلات السيارة وهي تغوص في الطين.. لكن لايهم..... اضطر إلى المشي مسافة نصف ميل نحو البيت ولم ينتبه إلى  المطر المنهمر فوقه  ولم يراه فذلك لايهم.... وابتلت كوفيته الحمراء على رأسه الذي بدا مترنحا من شدة التأثر والحيرة ومعطفه الرمادي أصبح ثقيلا بالماء وتدلى خلف رقبته كما لو انه يتامر عليه ليخنقه لكن ذلك لايهم أيضا..... وجلبابه متسخ وقدماه ثقيلتان تكاثف عليهما الوحل بحيث أنه لم يعد يعلم ما إذا كان لازال ينتعل حذائه أم أنه غطس في الطريق...

 خارت قواه على حين فجأة وتراءى له الطريق بعيدا والبيوت عابسة والنخيل تتمايل هاماتها رثاءا لحزنه وعتمة السماء الرمادية تنذر بكارثة..... ثم لمع البرق وهوى صوت عظيم يصم الاذان فانسكبت فوق رأسه كل شلالات الأرض وصفعه الهواء البارد بلا رحمة لكنه عندما وصل إرتاعت زوجته وأسندته حتى وصل فراشه. 

في تلك الليلة إرتجف العم عدنان كورقة السعف تحت لحافه وهو يكابد حمى شديدة... 

ولأن العاصفة كانت قوية اهتزت الأسلاك بعنف و انقطع التيار الكهربائي فقامت المرأة تستعين بفانوس نفطي عفى علية الزمن الغابر

وجلست إلى جانبه بقلق وحزن تفكر بمصيرها.. ترى ماذا سيحدث لو مات زوجها؟ 

أي مصير أسود ينتظرها؟ ...

 وكان ضوء الفانوس الأصفر الخافت قد طبع على المكان إحساسا كئيبا وضاعف من مرارة خوفها وجزعها... 

لقد مرت ثمانية أشهر ياعدنان ونحن نبحث عن ولدنا الوحيد... لا لم تكن ثمانية أشهر بل ثمانية قرون من عمر البشرية 

هاقد عرف كل أهل القرية مصائر أبنائهم منهم من عاد ومنهم من عرف مكان إعتقاله ومنهم من استشهد... إلا بيت العم عدنان أبو جميل لم يعرف مصير ولده الغائب.... غير أن الذي جعلهم متمسكين بخيط من الأمل أن أحد الجنود الذين كانوا معه في المعركة أكد أن الملازم لم يصبه أي شيء وأنه رفض الأستسلام حتى اللحظات الاخيرة ثم انتهت بدخول القوات الامريكية الى المطار لكنه اختفى بعد ذلك ولا يعرف أي طريق سلك مع بعض الجنود المنسحبين... 

ومنذ تلك القصة وهم لايكفون عن البحث عنه

أما هي فقد عرفت خلال هذه الفترة كل المنجمين وقارئي الكف والفنجان وكل من له صله بالروحانيات والقوى الخفية حتى أنها خبرت بعضا من حيلهم ... وقصدت إمرأة غجرية ذاع صيتها في قراءة الكف وكانا يجلسان تحت عريشة.. 

مدت لها يدها المرتعشة المرهقة فنظرت بعيناها الجاحضتان المخيفتان وقد لمعت بضوء غريب وقالت لها... 

حسنا يا نجية إن خطوط يدك المتعرجة المتشابكة غاية في التعقيد وأرى هناك متاهة لكن الخير قادم بعد حين وأرى ان ولدك شبه تائه يقف عند مفترق طرق... إنه عائد والشمس فوقه متوهجة... ثم صمتت...متأمله وأكملت.. 

وهذا يشير إلى الصيف... يعني مامن أخبار قبل انتهاء الشتاء... 

وفكرت يومها.... 

يالله ما اشد طول هذا الشتاء لو أنه ينقضي مسرعا... ثم نعقت غربان كانت فوق العريشة كما لو أنها ترافق دربها وانقبض قلبها لكنها استعادت الامل.... 

وراح العم عدنان يهذي ويقول كلاما متقطع من عالم الاحلام واليقضة...أين نحن.؟نعم أنا أبو العريس؟ طائرات... دبابات.... محصول الحنطة هذا العام غير جيد... سابيع البقرة المريضة لافائدة منها..... سنسافر... لم يعد لدينا وطن.... 

نظرت لزوجها بحزن وهي تبكي وتضع على رأسه المتوقد كمادة من القماش مبلله... 

قالت له وربما سمعها.... 

انت قوي ياعدنان لن تهزمك حمى عابرة... 

لقد تذكرت عندما كان جنديا في الحرب الايرانية كيف كان منضبطا ملتزما كالساعة لأجل ذلك أحبه الضباط وأسندوا له مهمات عديدة ومنحوه إجازات كان يرفضها ويبقى في الجبهة ومرة أصابته شضية في ظهره وأوشك على الهلاك لكن لطف الله أعاده ليبعث من جديد ليروي  لزوجته وأهل القرية أهوال الجحيم في الحرب.... حتى صاح أحد الجالسين مقسما بالله أن العم عدنان استحق وسام شجاعة على صدره لكنه كان يضحك ويدخن سيجارة من نوع سومر ويقول لدي وسام على ظهري لاحاجة لي بالوسام

لقد كان يرفض أن يدعوه أحد بأبو الشهيد لقد تشاجر من أجل ذلك غير مرة.... كان يقول إبني حي وسيعود ذات يوم سترون... 

ورأى العم في حلمه الضابط وهو يطلب منه إيصال رسالة إلى ملازم يدعى جميل.. 

 أخذ الرسالة مسرعا بين الخنادق كان فخورا لكنه حزين اذ تذكر أنه لايدري أين يجده وراح يتلفت بحيرة وكانت القذائف تسقط حوله كالمطر حتى وخزته شضية بسرعة البرق في ظهره كالنصل الحاد ففزع مستيقظا كالغريق..... 

واليوم وبعد خمس عشرة سنة أصبحنا جميعنا أولاد وبنات القرية أبناء لأمنا نجية أم الخير كما تسميها والدتي وتقول لنا أنها إمرأة مباركة

إذا كنت مهموما وأردت الفرح يكفي بك أن تقصد بيت أم جميل فتلقاك بترحاب وابتسامه طيبة وعيون حانية مطمئنة تشعر أنها أمك لكن في عوالم أخرى أو أنك التقيتها في زمن ما فتقرأ لك الطالع بلا مقابل وتدعو لك بالخير والسرور وتدس في يدك قطعة حلوى.... 

وأما جدنا العم عدنان فقد كبر واستعان بعصا لكنه لا يزال يحتفظ ببعض قوته وصلابته تجلله الشيخوخة في وقار وهيبة فيجلس قرب هيكل سيارته الصدئة وهي لاتزال في ذات المكان منذ العاصفة.. 

فنتحلق حوله ويحدثنا عن أهوال الحرب وأساطير الأبطال ويخرج لنا صورة من جيبه ويقول.. هاكم انظروا هذا أحدهم... . 

وينفث دخان سيجارته ويتصاعد كسحابة في حلم فنطير نحن معها في فضاءات لانهاية لها.....

صلاح ياسين

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنَّى لي بعِمَامةِ أبي

الحمل الوديع

أشواك للبيع