بائعة الخضراوات
قصة ~ بائعة الخضراوات
الكاتب ~ نايف ثامر الكعبي ~ يكتب.
~~~~~~~~~~~~~~~~
بائعة الخضراوات
لم يجعلنا عظماء ألا الألم
الفريد دي موسيه
اقتربت النسوة من سوق عريبة الشعبي.خففن الخطى وكل واحدة منهن تحمل زبيلها الفارغ بيدها.نظرن إلى مكانها.عقدتْ الدهشة ألسنتهن.تبادلن نظرات: أم الخضراوات
مكانها فارغ!!؟
تذكرن صوتها المضمخ باللوعة والحزن.كن من بعيد يسمعن صوتها الناحب ينفذ من الأسماع ليبلغ الأفئدة،فينكأ جروح القلب...صوت يشتكي.. يتظلم .. يعبر عن قهرها..يستغيث: تعالن ياحبيباتي للرشاد الزين للريحان للأكرفس ثم تختم نداءها بصوت خفيض متوسل:- أمهات المروة أبنياتي وحدهن في البيت.لا أعرف أجعن أم رعبتهن الوحدة؟ ألخاطر الله تعالن.
يسرعن إلى شراء خضراواتها ليس بدافع العطف فحسب ،بل لأن خضراواتها طازجة نظيفة.ولأنها تواصل نثر الماء البارد على خضراواتها بيديها البضتين المخفيتين بقفازين أسودين،لكن الذي يثير الدهشة والحيرة،أنها الوحيدة التي تقف في بسطتها،تحت الشمس المحرقة،دون سقيفة.فترى وجهها الأحمر.الذي يدنو من الكهولة،يغمره عرق غزير.يلمنها مشفقات: -أحمي نفسك من لهب الصيف
تهز رأسها بعناد:-أريده يشوفني..يرى ضيمي وبؤسي.كان أبقي لي واحدا منهما لكنه كسر جناحي!!
ثم تخنقها العبرة،فتخفي وجهها بفوطتها البيضاء وتمسح دموعها .يهزهن مصابها.يقفن قربها مواسيات:- (الله يعينك يا حبيبة!! )
وكان بكاؤها يؤلم جارها بائع الرقي أبا ذكرى الذي يتعاطف معها ويأسى عليها قائلا":- تريد تنتحر.عرضت عليها غير مرة أن أنصب لها سقيفة،جوار سقيفتي لكنها ترفض،
ينظر لها بوله .تتلاقى العيون.تخفض عينيها الواسعتين عن وجهه الأسمر وشاربه الدقيق.والشيب الذي ألم بفوديه. بحياء وخفر.يمر على ذهنها خاطر.ينبثق صوت من داخلها: (لو كان لي أخ ما يقف لي مثل موقفك،لكن أنا مشؤومة.أخشى عليك أن تلحق بزوجي وولدي محمد.) مر شريط من الذكريات أمام عينيها.في الليلة التي تسبق التحاقه في وحدته العسكرية في الناصرية عام1995،كانت راقدة جنبه تتوسد ذراعه المفتولة.أخذ يحدثها عن أحلامهما،ألتي سيحققها لها.بشرّها متفائلا: خدمتي المكلفية أحدى عشرة سنة.وعريضة التطوع في جيبي وسأترفع من ر.ع. ألى ن.ض.وسيزداد راتبي وسأمنح قطعة أرض وأتسلم عليها قرضا من مصرف العقاري وأبني لكم بيتا
وأتخلى عن بيت الورثة لأخوتي،لكن القدر له بالمرصاد. لم يمهله.إذ انقلبت به سيارة
الأجرة.في طريق الناصرية مع زملائه،قبل بلوغه وحدته العسكرية بكيلو متر واحد
وهذا أول سهم خرم قلبها.فماتت الأحلام بموته.جاءها زميل له نجا من الحادث
واستصحبها هي وأطفالها إلى آمر وحدته في بيته في زيونه لعله يساعد الأسرة في
المجلس.كي تستفيد الأسرة من التقاعد.قال له متوسلا :- سيدي هذه أسرة المرحوم
ر.ع .زبون جاسم.الذي توفي بحادث سيارة وهو ينوي الالتحاق في وحدته والأسرة تأمل أن تنظر لها بعين العطف الأبوي
سأله الآمر مستنكرا:- كيف؟
- تعتبره شهيدا..سقط جراء قصف طيران معاد وأنت مسؤول عن المجلس العسكري
كي تحصل الأسرة على الراتب التقاعدي
أربد وجه الآمر وحدجه بصرامة:-عمل كهذا سيعرفه القاصي والداني في المعسكر وسيعرف المكتب العسكري وسيعدونه تزويرا وحادث موت المرحوم عرفه كل منتسبي المعسكر.
شعر الصديق بالحرج.أعتذر للآمر.عادت الزوجة هي وأطفالها تجر أذيال الخيبة.واسوها أخوة زوجها.قالوا لها :- لا تحملي هما
لكنهم بعد وفاة المرحوم بعدة أشهر،طردوها من البيت،هي وأطفالها،لأن زوجاتهم خفن أن يأسر جمالها أحدهم ويتزوجها.استنجدت بجارها أبي ذكرى ورجته أن يستأجر لها مسكنا.تأثر لها وأنكر فعلة أخوة زوجها التي تخلو من المروءة.فأجر لها هذه الدار.ولما ضاقت بها سبل العيش بعد وفاة زوجها.توجهت نحوه تسأله مكانا صغيرا لبسطتها الجديدة.فتخلى عن جزء من مكانه لها لتقيم بسطتها.وأول مرة تدخل كار البيع محرجة فشجعها وساعدها. حفظت جميله.ولما فجع الرجل بزوجته وأبنته في مصيبة جسر الأئمة في 13/8/2005توقفت عن البيع أسبوعا كاملا.تتقبل تعازي النساء وتطبخ وتعد الشاي للنساء.و لما كف العزاء.وضعت في يده عشرة آلاف دينار قراءة فاتحة .تعذر على محمد ابنها أن يعزيه لانشغاله بالعيشة .شكر لها وقفتها.في آب 2008 أشتد لهيب الشمس.وتفصد العرق غزيرا من جسمها.شعرت بحمى شديدة تحرق جسدها وضباب كثيف حجب الرؤية عن عينيها وصداع يضرب في صدغها كالمطارق .دارت بها الأرض فهوت مغشيا عليها وهي تئن .نقلها أبو ذكرى إلى المستشفى.فحصها الطبيب .قال: - ضربة شمس
ذهب أبو ذكرى إلى السوق ورجا أم حميد بائعة البخور.أن تبقي معها في المستشفى.استصحب بناتها إلى عمامهن.تنفس الصعداء.أسترجع في ذهنه ذكرى مصرع ابنها محمد.قال:- آآآه لو كان حيا لخفف عنها الكثير من هموم الحياة لكن قاتل الله الإرهاب فقد فجعها بولدها إذ أجره أحد المجرمين إلى الدورة وهناك قتله وسلب سيارة الأجرة التي يشتغل فيها أجيرا في عام2007 ذكرى مصرع ولدها أثارت شجنه وحزنه عليها زفر من الأعماق وحوقل.في اليوم الثاني .خف إلى المستشفى.وجدها جالسة وقد رفع من يدها المغذي.رفعت رأسها نحوه وفاضتْ عيناها بالشكر.ودت لو تفيض في التعبير عن مشاعرها نحوه, لكنها أمسكت حياء .تهلل وجهه.فرحا: تبدين بصحة جيدة.
تمتمت:- الشكر لله ولكم ,ما قصرتم ياطيبين!!
- نحن أهل نتعاون لنقهر المصاعب ونزيل هموم بعضنا بعضا
تذكرت بناتها.لذع الخوف قلبها. سألته بلهفة :- بناتي؟
ربت على يدها البضة:- عند أهلهن
برأت من وعكتها.نقلها إلى بيتها.في هذه الليلة صورتها لم تفارق خياله.تمنى أن يجمعهما بيت واحد.ظل هذا الحلم يسكره شطرا من الليل.صمم أن يفاتحها بمشروع حلمه غدا بعد انتهاء البيع.تماثلت للشفاء جلبت خضراواتها صباحا.وجدت تغييرا في بسطتها.دهشت تفجر فرح في داخلها.قالت في نفسها :- هو
أول مرة تشعر بظل وارف يغطيها هي و بسطتها.رفعت صوتها الممزوج برعشة الفرح وهزة السرور وهي تنادي على خضراواتها
نشرت هذه القصة في جريدة التآخي
نايف ثامر الكعبي
تعليقات
إرسال تعليق