إلغاء عقوبة



 قصة ~ إلغاء عقوبة

الكاتبة ~ فريزة محمد سلمان ~ تكتب..

~~~~~~~~~~~~~~~

إلغاء عقوبة


إنه صباح تشريني كئيب، صحوت لأجد نفسي وحيدة، الكل في عمله، والبيت يطبق عليً جدرانه، يضيق صدري، يركبني الغم والهواجس، أفتح الفيس، تطالعني النعوات، أفتّش عن أغنية لفيروز، في أول البحث أغنيتها " طلعلي البكي". ياإلهي ماهذا الصباح، أغلق شاشة حاسوبي وأقرر التحدث مع أختي علّي أتغلب على سوداويتي وأنعم بصباح جميل.

_ صباح الخير  كيفك أختي؟

_ صباح النور . احزري من توفيَّ أمس؟

_ من؟ أحد أقرباءنا؟  تصّر أن أحزر فأشرح لها كيف صحوت اليوم، ومزاجي متعكر، وأطلب منها: قولي دون تكهنات رجاءً.تجيب: رجب، صديق دراستك في الابتدائية ؟ أتذكرينه؟

_ نعم نعم أذكره، رحمه الله، كيف مات؟

_ توقف قلبه مساءً.

أغلقتُ سماعة التلفون، وسيلٌ من الذكريات انداح لمجرد ذكر اسمه " رجب" ذاك الشيطان الصغير المشاكس دوماً، والذي يملك طاقة  كبيرة من فرط النشاط والحيوية، تفوق عمره، والغريب كيف يدعمها ذاك الجسد الهزيل.

 كان يكره التعليم ويوماً بعد يومٍ يرتفع سد شاهق بينهما، كان جدول الضرب مشكلته الكبرى والأحرف الابجدية عبارة عن أحاجي عصية على الحل في رأسه الصغير، لم ينفع معه ترغيبٌ أو ترهيب، فروحه المشاكسة أكبر من أن يسعها  جسده النحيل.

في ذلك الصباح الشتوي الماطر، كان رجب بين يدي القدر ينتظر فرجاً ينهي عقوبة " الفلقة" التي وعد بها الأستاذ أحمد، كل من لم يحفظ جدول الضرب هذا اليوم، وقد أُعذر من أنذر.

  يقف رجب،مطأطأ الرأس أمام السبورة مع صفٍ من الكسالى، وصوت عصا الرمان تفرقع على أقدامهم الصغيرة الغضة، الواحد تلو الآخر دون شفقةٍ من الأستاذ ، المعروف عنه بالصرامة والقسوة، كما يُشهد له بالمقدرة والعطاء  المتميّز، دون أن ينتظر تقديراً أو مكافأة من الإدارة أو من الأهالي، والذي فاجأ الجميع، وأولهم المعلمات، بعدم قبوله الهدايا في عيد المعلم، وقال ببساطة لنا: من يحفظ دروسه ويتفوق هو هديتي.أرجعوا الهدايا فأهلكم أولى بها.

كان همه الأوحد أن يرفع من شأن العلم ويشجع التعليم في بيئة فقيرة مثل ضيعتنا هو الذي ترعرع وسط بيئة شبيهة.

شحب وجه رجب وكأن الحياة غادرته، إذ أمره  الأستاذ أحمد  بخلع جذمتة، فقد وصل الدور إليه وهو سارحٌ في ورطته التي لاخروج منها.


 نحن رفاق طريقه ومشاكساته، منّامن تعاطف معه وأحس الموقف المحرج الذي هو فيه، والذي كان من الممكن أن يكون لأي واحد من الشلة الذين راهنوا على الخوض في ماء المستنقع الذي فاضت مياهه على الطريق المؤدي إلى المدرسة في أقل وقت ممكن ودون ان نتأخر عن الدوام._" كأني أراه الآن بضحكته الرنانة وهو يرفع جزمته في الهواء مفرغاً الماء منها، ومعلناً أنه الفائز."_ آخرون سرت همهمات ضحكهم  لصورة المهرج الذي استسلم أخيراً لقدره،أما الأستاذ، الذي أصر على معاقبته واستعان بأحد التلاميذ لخلع الجزمة بالقوة أمام إصرار رجب على عدم خلعها لوحده.

لحظة انخلاغ الجزمة بقَّ صوت ماء وتناثر على الأرض موحلاً، وظهرت الرجل الصغيرة ملوثةً بالوحل أيضاً، وجواربه لايعرف لونها.

وقفت العصا في منتصف المسافة من رجله، هلعٌ أصاب الأستاذ أحمد ولانت قسمات وجهه فجأة، بينما لاحت ابتسامة ارتياح على وجه رجب الذي تصعّرت قسماته  ألماً قبل أن تسقط العصا على قدميه، بينما ران صمت مهيب في الصف.

لم يرجع الأستاذ أحمد  في قرار عقوبة  اتخذه أبداً، إلا في عقوبة رجب الذي يبدو أنه قد حرك فيه شيئاً من المعاناة والعوز قد عاشهما سابقاً، فكانت ردة فعله أن أنهى العقوبة، و بإشارة من عصاه وبصوت دافئ قال للباقين: عودوا إلى مقاعدكم، وخاطب أحمد "البس جزمتك بني وخذ حقيبتك وعدْ إلى البيت قبل أن تصاب بالمرض".

يومها كانت فرحة للأولاد الذين نفدوا من العقاب إلى حين بسبب هذه الحادثة، ولغطٌ كثير ، تناول الأستاذ أحمد الذي أظهر طيبة تختفي وراء قناع وجهه العبوس.

 رجب الوحيد الذي بقي كما هو ملك الشيطنة والكسل، يعيش يومه وكأن الغد بعيد جداً.


 بقلمي فريزة محمد سلمان/ سورية

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنَّى لي بعِمَامةِ أبي

الحمل الوديع

أشواك للبيع