تناوب
قصة ~ تناوب
الكاتبة ~ رفقة المناكري ~ تكتب..
~~~~~~~~~~~~~
تناوب..
إنها الليلة الثالثة التي أعجز فيها عن إغماض جفني و اليوم الثاني الذي لم أستطع فيه ابتلاع لقيمة. أصبحت أخاف من ظلام الغرفة و من الهواء البارد الذي ينجح في التسلل من شقوق النافذة. أضحيت أرى الأخيلة التي كانت تراودني قديما بالقرب من الساعة الجدارية و أسمع صياحا قادما من الدهليز، أصوات القرقعات في غرفة المعيشة تزداد وضوحا و شعيرات يديّ نافرة باستمرار و أنا لازلت أقنع نفسي أنني أحلم و أنني لم أستيقظ بعد لاستقبال ابني العائد من سفره الطويل. نجحت في إخراج يدي من تحت الغطاء الثقيل لكنني عجزت عن إيصالها إلى وجهي. وقفتْ في مكان ما بينهما و انتابتها موجة من التشنجات الكفيلة بجعلي أنتفض بالكامل و أتأرجح كريشة. ارتطمتُ في ٱخر المطاف بالأرضية و سلّمت يدي لا شعوريا للذراع التي امتدت لترفعني معاتبة. لا زال الخيال القابع قبالتي يقول أنني أتصرف كطفلة و لازلت أعتقد أنني أخاف الأخيلة و أن ابني سيأتي ليخلصني منها. ناولتني نفس الذراع بعض الكبسولات فلفظتها فدستها بين أسناني و أجبرتني على ابتلاعها، شيئا فشيئا أصبحت أسمع صوت دندنات لطيفة عند رأسي و أرى مجموعة من الرضع يحبون حولي فأخذت أبتسم و أناديهم لفراشي لكن يبدو جليا أنهم لا يستجيبون لندائي. حاولت أن أرفع الغطاء الذي يزيد ثقلا مع وهن عضلاتي، فتعيدني الذراع الحديدية إلى وضعي. فكرت في التوسّل إلى الشبح بوضع أحد الرضّع بين ذراعي لكنني تذكرت أنني غاضبة منه و أنني قاطعته منذ مجيئي إلى هذا البيت خاصة و أنني أعتقد أنه هو الذي يمنع ابني في الوصول إلى سجني. تظاهرت بالغضب لوهلة فاختفى الأطفال دفعة واحدة و تصاعدت الأصوات المزدحمة في الأسفل. إنه قرع الطبول الذي كنت قديما أرقص على أنغامه الناشزة و ها أنا أتماسك كي لا تعاودني الرعدة التي تجعلني في قلب الحلبة بلا حول مني و لا قوة. إني أتماسك، أشد جسمي النحيل جدا تحت الغطاء الذي غدا خفيفا ليِّنا. إني أتماسك، أتذكر ابني الذي هجرني بسبب رقصي في الشوارع كلما سمعتُ قرع الطبول. إنى أتماسك، أتذكر زوجي الذي هجرني بعد أن عجزت عن إقناعه بأن للطبول قرع جميل داخل رأسي. إنى أتماسك، أتذكر أمي التي ماتت كمدا و أبي الشيخ الذي يبكيني واضعا رأسه بين كفيه. إني أتماسك، أرى طفلي قادما على صهوة جواد نبيل يسألني المكوث في سريري. أنا أوشك على التماسك لكنني أطير في هذه اللحظة. سماء الغرفة رحب جدا كأن سقفها قد تلاشى و ابني يكاد يبلغني. أنا أطير رغم أنني لازلت ممسكة بسريري و رغم نزف أصابعي من أثر عض الأشباح لها....
عاودتني نوبة فقدان الوعي لكن هذه المرّة، كنت أرى مليًّا وجه ابني بتقاسيمه المعهودة. شاب عشرينيّ وسيم، طويل القامة، حسن الهندام بنفس تفاصيل وجهي، تعلو ثغره ابتسامة صافية ويبدو الذّكاء وميضا في عينيه. كان يطمئنني إلى قدومه لإنقاذي من براثن الفراغ المميت، وكنت أفتح ذراعيّ على مصراعيهما لاحتضانه. تتالت كرّاتي ولم أحصل على مرادي وكلّما اقتربت منه استحال ضبابا باردا تتجمّد له أطرافي قبل الإمساك به، ثمّ أخذ يتراجع إلى الوراء لتحلّ أمامه مائدة ضمّت ما لذّ وطاب من المأكولات والمشروبات وأشار لأجلس وأشاركه طعامه، فجلست وطعمت وارتويت وما وضع لقمة في فمه بل اكتفى بعقد يديه تحت ذقنه وظلّ يراقبني إلى أن تجشّأت وحمدت الله فاختفى من أمامي وسط ذهولي. ألقيت بنفسي في مقعده ظنّا منّي أنّني سأمسك بتلابيبه فارتطم رأسي بالمقعد الصّلب وأفقت على الفور من كابوسي. كنت لازلت على هيأتي الأولى، ملقاة كخرقة وسط الغرفة لكنّني كنت أحسّ بتخمة غريبة وبرغبة جامحة في الذهاب إلى الحمّام فزحفت على بطني وأنا أتأوّه من كدماتي.
عندما وصلت الباب، أصختُ سمعي فإذا بوابل من الأصوات تنشق من العدم وتتضح رويدا رويدا تصاحبها خطوات خبرتها، منها الوئيدة ومنها السريعة. كانت تقترب بسرعة لم أستطع معها العودة إلى سريري. عندما فُتحَ الباب كنت ملقاة أمامه مباشرة وكادت الأرجل ترفسني لولا أنّني سمعت صيحةً منبِّهةً. إنّها الأشباح البيضاء هذه المرّة. إنّها لا تخيفني، لكنّها تزعجني و تجبرني على البقاء في غرفتي و تهدّدني بالتقييد في سلاسل حديدية لو حاولت الخروج من بيتي. شبح أبيض كان يعاملني بلطف بالغ ويجلس قربي لساعات يحدّثني لكنّه عدل عن زيارتي. لقد وعدني آخر مرّة أن يجدّ في البحث عن طفلي، ربّما غادر البيت ليجيء به. سأنتظرهما وفي المقابل لن أقول كلمة واحدة للأشباح البيضاء الأخرى التي تدور حولي كأفلاك تائهة تريد استجوابي.
ما شأن الجميع بي؟ من سمح لهم أن يقيسوا حرارتي وأن يصبّوا سائلا حارقا في وريدي المتعفّن؟
رفعني الشبح الضخم وألقاني على حشيّتي. غرز في عضدي إبرة ودوّن شيئا في حاملة أوراقه الزّرقاء. دارت حولي بقيّة الأشباح، فأخرجت لساني وأصدرتُ أصواتا شبيهة بالعواء وانقضضت على يد وضعها صاحبها فوق جبيني، فتراجع الشبح وقهقهتُ ودوّن الضّخم شيئا آخر. رفعت رأسي أريد أن أعبث بحاملة الأوراق الزرقاء فنطّ الضخم إلى الوراء وأمر بتقييدي. هببتُ من فوري وأخذتُ أقفز فوق الحشيّة وأحسست أنّني أطير، أتجاوز الأزمنة، أخترق الجدران وأتعلّق بتلابيب نجمة نحاسيّة بيْد أنّ قوّة ما جذبتني إلى الأسفلِ حتّى كادت أوصالي تتقطّع وخفت أن أكون قد قسمت نصفين فلا يجدني ابني كاملة ويتعذّر عليّ احتضانه.
نجحت الأيدي الكثيرة في شدّي إلى حشيّتي وكنت أرفع رأسي مقاومةً حتّى خارت قواي بالكامل واستسلمتُ. في الأثناء كانت بعض الأشباح السوداء تدخل الغرفة وتخرج، تارة تحمل غرضا وطورًا تلقي التّحيّة وتمضي دون أن تنتظر ردّا وكان واضحا أن الأشباح البيضاء لم تكن ترها، بل رأيتها غير مرّة تدوسها وتمرّ خلالها.
اقترب من أذني شبح أسود وهمس:
- لديك زيارة.
قلت:
- زيارة؟
دوّن الضّخم أمرًا.
- شيخ أدرد، تخونه الخطى وتقف الكلمات على طرف لسانه.
- أبي!
تفحّصني الأبيض الضّخم ودوّن في حاملة أوراقه.
- معه مرافق.
- من يرافقه؟ ابني؟!
- لا. شيخ معمّم، يتوكّأ على عكّاز قصير.
قلت في يأس :
- عاد أبي يستجدي شيوخه!
لم تفت الضخم فرصة التّدوين.
- ابدئي بالصياح عندما يشرع في التّلاوة. غمزني الشبح الأسود وغادر.
حدّق بوجهي الشبح الأبيض وزوي بين حاجبيه.
انفرج الباب عن جسدين متهالكين يتوكّأ أحدهما على الآخر. أمّا أبي فقد عرفته رغم أن الشيخوحة قد عبثت به إلى درجة الإفراط وأمّا الآخر فلم أشأ النّظر إليه. التفت الضّخم عند سماعه الخطى؛ حدّق في الجسدين المتهاديين ثمّ عاد لتمسح نظراته كامل وجهي وما انفكّ يراوح بيننا حتّى خرَّ وتهاوى وسط الغرفة.
رفقة المناكري
تعليقات
إرسال تعليق