فرحة موؤودة .



 قصة ~ فرحة موؤودة .

الكاتبة ~ فادية حسون ~ تكتب..

~~~~~~~~~~~~~

فرحة موؤودة ...


كمِرجل ماء يغلي بما فيه.. كان قلبها الضعيف يغلي.. 

شيءٌ ما في داخلها بثّ ذعرا وحزنا لم تذق مثلهما في حياتها... كان السوق يكتظ بمئات الأمهات والأطفال.. يتزاحمون بفرح فوق الأرصفة  وفي الشوارع وفي المحالّ التجارية..لانتقاء ملابس العيد 

كان الوقت عصرًا .. وقلب أم حسام كان يعتصر ألمًا كلما  رأت طفلا يسير بجوار أمه على قدميه.. فصورة قدم إبنها حسام المبتورة كانت تنتزع كل عوامل الفرح من قلبها المنكسر... أمسكت جيدا بحقيبة يدها كمن يتشبث بكنز ثمين حصل عليه بطريق  الصدفة.. خشية أن ينشل أحدهم نقودها التي تكرمت عليها بعض الجمعيات الخيرية.. شعرت لبرهة أن قدميها تخذلانها عن المضي.. ولم تعد تقوى على متابعة المسير.. وقد التصق لسانها بسقف حلقها ظمأً ولهاثًا .. وحبّات العرق تُذرف من مسام جسدها كجمهور عريض يحتج  لاإراديًّا على رمضاء هذا اليوم القائظ.. كلمات طفلها حسامٍ ذي الأعوام الثمانية مازالت تدقّ في رأسها كل لحظة كضربات إزميل أرعن .. (( ماما.. هل ستشترين لي حذاء جديدا  كما في كل عيد ؟ )).. لم تستطع حينذاك إخفاء عبراتها حين سمعت صوته الطفولي المتهدّج والذي يحمل ألف رسالة قهر تنخر بطانة أمومتها المفجوعة...

 قبل ستة أشهر.. كان حسامٌ يزين ساحة دارها بلعبه ومرحه الطفولي.. تذكرُ أنها كانت تمتعض كثيرا من ركل الكرة على جدران المنزل في وقت قيلولتها.. وتؤنبه بشدة حين تصاب إحدى ورود الدار بضربة تقضي على بتلاتها الأنيقة ..و التي كانت تمضي معظم وقتها في رعايتها وتشذيبها .. وتتباهى أمام جاراتها بجمالها... وكم من المرات عاقبته بمصادرة كرته إلى أن تهدأ ثورة غضبها.. كانت أم حسامٍ ذات الأعوام الثلاثين  تتابع سيرها كعجوز هرمة سحب القهرُ الحيويةَ من محياها الطلق.. وقد حقنت لسانها ببعض عبارات الاعتذار التي كانت ترددها كمذياع مُضجِرٍ على الناس الذين تصطدم بهم دون قصد في غمرة شرودها ووجومها .. أحسّت برغبة شديدة بالصراخ.. 

ماذا عساها أن تجلب له من السوق.. فالحذاء الجديد هو أبسط ما على الطفل حيازته في هذا اليوم المبارك.. ولسوء حظها شعرت بأن الكون كله  متواطئ مع ألمها.. ويساهم في تكريس حزنها .. حيث كانت تمر مصادفة  من أمام المحالّ التي  تذكّرها بمأساتها... هذه الدراجة الهوائية لطالما كانت حلمه المؤجل إلى أن يصبح في الصف الرابع الابتدائي.. وتلك الكرات الملونة كانت تحضرها له في كل عيد ليلعب بها مع أقرانه من أبناء الحي... وذلك الحذاء الرياضي الفخم كان قد طلبه منها في العيد الماضي لكنها ولفقر الحال أقسمت أنها ستشتريه له في العيد القادم... 

وهاهو العيد قد أتى من جديد...  لكن أحلام حسام تم إعدامها بمقصلة الحرب اللعينة... 

كانت عبراتها المنهمرة بغزارة تساهم في مضاعفة الحر ، وتحرق وجنتيها الكليلتين ...وتزيد من شدة إعيائها... بعض المارّة كانوا يذيّلونها بنظرات إشفاق.. والبعض الآخر يقطّب حاجبيه استغرابا.. وليس هناك  سوى الله وحده عز وجل يعلم تفاصيل الرواية التي يسردها قلب تلك السيدة المسكينة... كانت تتمتم في سرها قائلة: ليتك ياولدي تفسد كل ورود الدار بكرتك الرعناء... ليتك تخدش غشاء سمعي بركلاتك على الجدران .. ليتني صمتُ عن الطعام والشراب لشهور.. كي أوفّر   لك ثمن الدراجة التي كنت تحلم باقتنائها .. ليتني وليتني وليتني.... ورغمًا عنها حزمت مخيلتها حقائبها وسافرت بها إلى ساحة العيد.. كضربة  استباقية لقلب أم جريحة .. فتراءت لها الساحة وقد غابت عنها أصوات حسام.. ومرح حسام.. وهناك أرجوحة فارغة تئن شوقا لشقاوته وضحكاته... كانت روحها المضطربة تصنع تصعيدا غير مسبوق للألم.. لابدّ أنه العيد.. أتاها ليمزّق ثوبَ تماسكها.. ويعرض مأساتها في الشوارع المزدحمة قبيل الإفطار بساعة..  وفي ساحات العيد التي بدؤوا بتجهيزها استعدادا لاستقبال الأطفال بثيابهم الجديدة.. وأحذيتهم اللامعة .. ومزاميرهم التي يطرب لها الكبير والصغير  ... أفاقت أم حسامٍ من شرودها فجأة حين اصطدمت من جديد بإحدى عربات البائعين الجائلين.. ثم سرعان ما أعلنت بكاءها وبصوت مسموع على الملأ .. حين رأت أكداسا من أحذية الأطفال ترمقها بازدراء   فوق العربة... 

كل عام وأطفال وطني  بألف خير..


فادية حسون.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنَّى لي بعِمَامةِ أبي

الحمل الوديع

أشواك للبيع