أسرار من سجن النساء
قصة ~ أسرار من سجن النساء
الكاتب ~ ادريس علي بابكر~ يكتب...
~~~~~~~~~~~~~~~
أسرار من سجن النساء
بعد جريمةٍ بشعة تناولتها أجهزة الإعلام في مساحةٍ واسعة كحديث الساعة، ارتكبتها أحلام في أوج غضبها الأعمى، المراهقة تصرخ بمرارة الانتقام في وجه المُحقِّق، إنَّها ليست نادمةً ولا تشعر بالذنب على فعلتها القاسية، تقول لو يرجع بها الوقت إلى الوراء فلن تتردَّد في اتخاذ قرارها نفسه مرةً أخرى، وإن فُتِحت لها كل أبواب الجحيم.
انساقت أحلام إلى سجن النساء بعدما تعرَّضت لتفتيشٍ دقيق، ثم لبست مُجبَرةً ملابس السجن رديئة الصنع وهي التي كانت تختار بِمزاجها أفخم فساتين السهرة للمناسبات! الآن تغيَّر الحال، زُجَّ بها خلف القضبان في انتظار مصيرها المحتوم، السجينات داخل السجن في حالة استفسارٍ دائمٍ عن الوافدة الجديدة، ونوع حُكمها، هل هي عقوبةٌ خفيفة أم غليظة؟.. منذ أن دخلت السجن الذي يمتلئ بوجوهٍ وأعمارٍ من شرائح مجتمعية مختلفة، يقضين عقوبتهن - لفتت الأنظار لصغرِ سنّها وقوامها الممشوق وجمالها الباهي، لم تبُح بالسلام لكنهنَّ تعاطفن معها ووجدن لها العذر، في البداية كانت تتحاشى امرأةً ليست مثل بقيَّة النساء، لديها شاربٌ وذقنٌ خفيف، مستطيلة الوجه، ليس لديها بريق الأنوثة؛ هرموناتها الذكورية مرتفعة وصوتها غليظٌ كالرجال، حاولت أحلام أن تبتعد عنها قدر الإمكان ولكنَّها تملك جاذبيَّةً سحريةً وروحًا مرحة؛ تُطلِق القفشات فتنتزع الابتسامات والضحكات العميقة من شفاه السجينات فيكسرن دائرة الحزن والملل، مع مرور الأيام اكتشفت أنَّ المظاهر خدَّاعة وأنّ الجمال الداخلي عند الحاجة "خميسة" لا يُضاهى، روحها تُضيء كالجوهرة وقلبها يفيض ينابيعَ من الحنان، كلماتها الدافئة تمنحها الأمان، على عكس بعض السجينات داخل السجن اللاتي يمتلكن جمالًا ظاهريًا ولكن دواخِلهن قبورٌ مُظلمة بفعل الحقد والحسد، الحاجة خميسة دخلت السجن عن طريق الخطأ، لم تكن جريمتها كبيرة لكن قسى عليها جور الأيام وضيق ذات اليد، صارت أقرب الناس إلى قلبها تبوح لها بكل الأسرار، تناديها بـ"أمي"، وجدت عندها الحضن الدافئ، ملاذًا آمنًا حين يرهقها التفكير المستمر. في العنبر تُمشِّط الحاجة خميسة شعر أحلام المُبعثر بحنان أمٍّ لابنتها، نزلت منها دمعتان؛ تذكَّرت أنَّ هذه اللحظات الجميلة لن تدوم طويلًا، أخيرًا أنَّبها الضمير وهي تعضُّ بنان الندم، ياليتها لم تقتل حبيبها وتركته ليتزوَّج صديقتها الخائنة، لكن دفعت ثمن تهوُّرها حين جَنَّ جُنونها وفي لحظةٍ حدثت الطامةُ الكبرى التي لا تُغتَفر، غرزت في جوفه خمس طعناتٍ، كلُّ طعنةٍ تساوي عامًا ضاع من عِشقه الكذوب.
كلما تذهب إلى جلسةٍ بالمحكمة تعود مُنهارةً ترتمي في حضن أمها الرؤوم ليخفف عليها الآلام، هي أكثرُ شخصٍ يقف معها في المحنة معنويًّا.. ثم تمرُّ بأكثرِ حدثٍ مُؤلمٍ ومزعجٍ في هذا العالم؛ إنسانةٌ كانت لها بُقعةُ ضوءٍ في حياتها المظلمة وها هو الوقت يُغافِلها بساعةِ الرحيل، مريرٌ طعم الفراق، الحاجة خميسة أكملت عقوبتها والآن تودِّعها بالدموع والمشاعر الفياضة، وعدتها بأنَّها ستناجي الربَّ في صلواتها لتنجو من حبل المشنقة ولن تنقطع عن زياراتها. وعلى حسب وعدها تأتيها بصورةٍ راتبةٍ كلّ يوم جُمعةٍ من كل أسبوع، ثمَّ بعد مدَّةٍ انقطعت أخبارها، لم تعرف أحلام مصيرها، أهي على قيد الحياة أم عصفت بها الظروف وتاهت في مجاهيل الشقاء مرة أخرى؟
هي على علمٍ باقتراب نهاية حياتها ولكن غياب الحاجة خميسة ترك عندها حزنًا وفراغًا لا يُحتملان، صارت كاليتيمة داخل السجن العتيق، مُعظم مَن عرفتهنّ مِن اللاتي حُكِم عليهن بالأحكام المُتفرّقة أُطلِق سراحهن وشددن الرحال.
في يومٍ من أيام السجن المُعتاد يعلو فيه الضجيج وتفوح نكهة الثرثرة، دخلت عليهن سيدةٌ في منتصف الخمسين، لم تكن من الطبقة الكادحة، تتمتَّع بصمتٍ قاتل، تُحدِّق في الجميع بغنج، هيبتها جبارة كاللبوة، اقتربت منها أحلام عسى ولعلها تُعوِّضها مكانة الحاجة خميسة، يومًا بعد يومٍ اكتشفت فيها خصالًا لم تكن تتوقّعها، ألفاظها جارحة فلا تعرف الخجل أمام الصغير أو الكبير، تتحدَّث بجُرأةٍ مُطلَقة، سيئة السُّمعة، تحب التدخين بلذَّة مفرطة، بدءًا كان يتم تهريب سجائرها في لُبِّ السندوتشات؛ فعندها الغاية تبرّر الوسيلة وهذا ما فعلتها مع ضِعاف النفوس، اشترت الذِّمَم داخل السجن وخارجه، اسمها "فهيمة"، متورِّطةٌ في ترويج الحشيش، لها ذكاءٌ حادّ، تحبُّ أن تنتصر بالرشوة. تدعو أحلام بالصغيرة والجاهلة عندما علِمَت بفعلتها، تقول لها: «لا تجعلي حبك نيرانًا مُتوهّجة فيوذيك مع من تحبين، اجعلي حبك مثل الثلج متى ما ذاب من سُخونة الموقف لن يضُرّ أحد المغرمين ولن يترك أثرًا، لا تأمني الرجال؛ فوعدهم مثل ظل الضحى». وكلما اقترب تنفيذ حكم الإعدام تقول لها: «أَعْمِلي عقلك، يمكن أن تَمُدِّي في أيامك ريثما يأتي الفرج المُبين؛ فالأيام حُبلى بالمفاجأت». أعطتها السيدة فهيمة فكرةً ماكرةً تفكِّر فيها أثناء الليالي، أخيرًا آمنت بها واستغلَّت جمالها بدهاء وخُبث، حملت عمدًا داخل السجن وتستَّرت على الجاني. لم يجد القاضي حرجًا في تجميد حكم الإعدام حتى تضع وليدها ثم تُرضِعه حتى يبلغ الطفل الفطام. تقرير الطبيب الصادم بشأنها زلزل كل الأركان من أصغر الرُّتَب إلى هرم الإدارة، كيف لفتاةٍ لها عامان داخل سجنٍ مطوَّقٍ بالأقفال المُحكمة والحراسة الصارمة ولا يدخل عليهن حتى ذَكَر الذباب فتحمل! ما لبثت أن ماتت القضية في مهدها واتنست في أدراج الأرشيف، كان الحدث زوبعةً في فنجانٍ والفاعل لم يكن بعيدًا عن مسرح الحدث.
قرار البقاء على قيد الحياة ليس بيدها ما زال أهل القتيل متشدِّدين في عقوبة القصاص، رغم أنَّ أيامها ممتلئة بالخوف لحد الغرق لكنها لم تنسى الاهتمام والرعاية بالجنين داخل أحشائها الإحساس بالأمومة شعورٌ فوق الوصف لا ينشغِل بدوافع الأسباب، السيدة فهيمة لم تُقصِّر في حقها، هي أكثر الناس سعادةً بالحمل؛ إذ أنَّه من وحي أفكارها، برغم كل ما يُقال عنها فهي إنسانةٌ كريمةٌ ولطيفةٌ تدفع بسخاءٍ، بلا حدود. أشهرٌ معدودات ثم أنجبت أحلام طفلها داخل السجن، وجدت الاهتمام والرعاية من السجينات بصورةٍ مدهشة، تتقبَّل منهن الهدايا والتبرعات، صرخات وبكاء الطفل (الله جابو) - كما سمَّته السيدة فهيمة - تمنح فضاء السجن رونقًا خاصًّا، وجد من الدلال والحب من كل الأمهات والعانسات، يتنقَّل من حضنٍ إلى حضن، حتى أحيانًا يكاد ملامح أمه تنس ، لا يجد وجه شبهٍ لها، لكن كل السجينات يداعبنه كبعضهن. إنَّه صورةٌ طبق الأصل من أحد حراس السجن، شبَّ (الله جابو) يمرح هنا وهناك حتى حان موعد فطامه بأمر المحكمة، فازدات الشفقة عليه.
آخر جلسةٍ للنُّطق بالحكم النهائي ليُسدَل الستار على قضيةٍ طال زمانها، أحلام تُودِّع رفيقاتها بالبكاء والدموع، قُبلاتٌ حزينة تُطبع على خدود (الله جابو) يأملن ببركته أن تُنقَذ أمه من حبل المشنقة، عند خروجها من السجن إلى المحكمة لم يمنع ارتداء "الميري" إلا أحد الحراس حزنًا عليها، فضحته مشاعرُه الإنسانية ورقرقت عيناه بالدموع.
وسط إجراءاتٍ أمنية مُشدَّدة بحضور لفيفٍ من الإعلاميّين وذوي الجانية والمجني عليه ضاقت بهم جَنَبات القاعة، بصوتٍ عالٍ يقول القاضي العجوز وهو يضرب مِطرقته: "محكمة"، مُعلِنًا بدء الجلسة، محامي أحلام يلبس ثوبًا شاعريًّا فضفاضًا يُدغدِغ في تأثُّرٍ المشاعر الإنسانية، بينما محامي القتيل ينغمِسُ في روح القانون بمهنيَّةٍ عالية طالبًا العدالة بحذافيرها، وقفت أحلام مكسورة الجناح أمام المحكمة والقاضي يُخيِّر أولياء الدم بين الدية أو القصاص، والِدا المرحوم رحلا من الدنيا في زمنٍ مُتقارب، فالكلمة العليا للأخ الوحيد العاطل عن العمل، وقف عابِس الوجه مشدودًا، صمت برهةً شارد الذهن، الجميع في ترقُّبٍ وانتظارٍ لقراره.. فاجأ الجميع عندما اختار الدية بإصرارٍ بلا تراجُع، تعالت الصرخات والعويل وبعض الإغماءات بين الجانبين ثم رُفِعت الجلسة.
بعد عودتها إلى السجن مُجرَّد أن عرِفَت السجينات الخبر بأنَّ يد القدر كتبت لها ميلاد عمرٍ جديد أُقيمَت الاحتفالات بصورة عفوية، باركْنَ لها العودة إلى قيد الحياة، اختلطت المشاعر فيها بالحزن والفرح، زغاريدٌ وأغانٍ ورقصٌ على إيقاع التصفيق الحار، زُفَّت أحلام داخل العنابر كأنَّها عروسٌ في ليلة زفافها حتى سرقَهنّ الوقت.
بعد أن تمَّت عقوبتها الأدبية أحلام طليقةُ السراح، لكنها كتبت لحياتها تاريخًا لا يُغتَفر، ظلَّت وحيدةً وعواطفها مسجونة في الخلايا، لا يُوجد رجلٌ سيغامر ويطرق باب عِشقٍ لأنثى قاتلة.
إدريس على بابكر.
تعليقات
إرسال تعليق