《 يومًا ستتغير به الأولويات》







الأديبة/ ناهد الاسطة/ تكتب


 يومًا ستتغير به الأولويات

ترفرف الطيور فاردة أجنحتها في الهواء مرتفعة  عاليًا  إلى السماء ..

يتراقص النخيل على ضفاف البحيرة،  مع نسمات الأصيل وتحمر وجنتيَّ الشمس مودعة نهارا طويلا .

ترسم خيالات الأفنان حكايات وحكايات ،  تطرق أبواب الحنين ويحتل طيفك عبق المكان، ويهمس الشوق بحروف من نور آملًا بلقاء أرواح يتدفق  كينبوع ماء رقراق  يمشي الهوينا  ليصب في البحيرة اللازوردية  فيمتزج بمائها بلقاء أبدي لا ينفصلان ....

فتحت عينيها ندى ببطء وهي تعود لأرض الواقع( قاعة المحامين ) في مبنى المحكمة الرئيسي ، بعد رحلة جابت روحها بها ضفاف البحيرة ، هناك أرض الطفولة عندما كان الجمال يعانق كل الأيام الأهل والأحبة ..

دمعتان فرتا من عينيها مسحتهما بسرعة ، فقد عاهدت نفسها يومًا ألا تشوب تلك الذاكرة أي أحزان ...

إنها الصورة الجميلة لموطن تركته خلفها وسافرت بعيدًا لمدينة كبيرة مترامية الأطراف ، شاهقة البنايات  سريعة الخطى ، ملبدة المشاعر ،  لتلاحق حلمها بالدراسة والعمل 


ندى محامية متمرسة ذاع صيتها في أرجاء المدينة ، تكفلت بحمل هم قضايا الأسرة على عاتقها ..

ومع كل نجاحاتها في تلك المدينة ، بقيت صورة بلدتها على ضفاف البحيرة وذكريات طفولتها وأيام شبابها ، أغلى كنوزها تحتفظ بها واحة في صدرها ، تلجأ إليها كلما شعرت بضراوة الحياة حولها ....

تردد صدى صوته الجهوري في أذنيها  عدة مرات ،  أثناء خروجه من صالة المحكمة،  التي كانوا يحضرون بها جلسة لفصل في قضية ضد تعسف في استخدام الحقوق...

-   لن تستطيعي فعل أي شيء أنا الأب وأنا حر ..

لم ترد ندى ولم تلتفت خلفها ، مسرعة الخطوات تجاوزته الى قاعة المحامين .

في وقت سابق  زارتها صفاء صديقة طفولتها ، في مكتبها 

بعيون باكية وصوت متهدج ، اختصرت شكوتها ، بعدة كلمات ..

- أرجوك ندى ، ساعديني ... أولادي دون أوراق ثبوتية ، لا أستطيع تسجيلهم في المدارس ، بعد أن طلقني فيصل وحجز كل أوراقهم الثبوتية  ...

تململت ندى في جلستها ، عندما تقابلها قضايا إنسانية تطغى الأنانية ، فيها على العقل ، تضيق الدنيا في وجهها ...

-ماذا حدث يا صفاء كان عرسكما إسطوريًا ، كان الحب يرفرف بينكما عصفورًا جميلًا، كيف وصلتما إلى هنا ؟!! ...

من بين دموعها التي تلألأت على خديها قالت  صفاء متنهدة :

- محقة أنت يا صديقتي ، كنت أعتقد أنني وصلت إلى الجنة في ذلك اليوم .

وسافرنا معًا  للخارج لنكمل دراستنا ، لا أعرف إن كانت الغربة تغير معادن الناس..!! أم إن مرآة الحب عمياء ...

كثيرة الأيام الجميلة التي عشناها هناك ، اختنقت صفاء  بعبراتها ، فسكتت لثواني حتى تمالكت نفسها 

- كنا سعيدان ، دراستنا تمشي بسلاسة ، البلد الذي نسكنه  جميل ، لم يطرق الروتين بابنا أبدًا ، فرتم الحياة سريع ، وكنا نعود لزيارة  الأهل  في الإجازات .

لم يكن ينقصنا شيء من السعادة ، حتى ذلك اليوم الذي اضطررت أن أذهب إلى المشفى أثر تعب طارىء ألم بي لأكتشف انني سأرزق بطفل ..!!

سكتت قليلا لتتمالك نفسها ثم أكملت : فرحت وخاصة كنا على آخر أيام دراستنا ، ولن يعطل علينا هذا الطفل  امتحاناتنا ...

-قالت ندى :  لم يكن مخطط له قدوم هذا الطفل ؟ 

-أكملت صفاء : نعم فعلا ، لكنه مشيئة الله .

تفاجأت به، ولم يكن يخطر في بالي إن سبب تعبي الذي كنت أشعر به طفلًا . 

لكن بعدما  علمت بوجوده تدفق إحساس لطيف في نفسي وشعرت إنه هدية المولى ، وخاصة كما أخبرتك إننا على أواخر أيام دراستنا وعودتنا إلى الوطن....

قاطعتها ندى : لكن فيصل لم يكن هذا رأيه !!..

صمتت صفاء لبرهة وقالت : لا أدري يا ندى لم أتخيل ردة فعله أبدًا ..!! 

اعتقدت إنه قد يغضب قليلًا ، ثم يتقبل عطية الله ، لكن بوجه قد من صخر  ...

- قال لي:  لن ننجب أطفالًا ... 

لم أفهم في بادئ الأمر..  اعتقدت لأننا في الغربة ، وبعيدين عن أهلنا ... وبدأت أسرد ما رتبت له من كلام وحجج لأخفف عليه وقع المفاجأة !! ...

لكنه وكأنه انقلب لإنسان آخر غريب عني لا أعرفه ..

- بكل رابطة جأش قال لي :صفاء احجزي موعد للتخلص من  الجنين ..

شهقت ندى ورفعت يدها بسرعة لفمها تكتم صوت شهقتها ، وهي متخيلة مشاعر صفاء في ذلك الموقف العسير 

ثم قالت :  يا الله ما أصعب ذلك الموقف ، ماذا فعلت؟

-لا شيء... ردت صفاء أخرستني المفاجأة !!

استمرت حياتنا كغريبن جمعهما بيت واحد ، كل منا مهتم بشؤونه ودراسته وتحضيراتنا للامتحانات النهائية ، والاستعداد للعودة النهائية للوطن .

-ألم تتكلما أبدًا مع بعض أنتما الاثنين ؟ .. مندهشة سألت ندى .

-كان يترك لي ملاحظات كتابية، عما يجب أن أحضره ليشحن لبيتنا في الوطن ، أو أي شئ مهم يجب القيام به ..

- وأنت لم تحاولي الكلام معه ؟ ..

- توقفت عن ذلك يا ندى  ، حاولت كم مرة ولكن وكأنني غير موجودة أساسًا أمامه ...

والوقت كان ضيق ويجب أن ننهي امتحاناتنا ونسلم البيت ونعود ، أرجأت مناقشة المواضيع لنرجع عند أهلنا 

- لم يجبرك للذهاب الى المشفى لإجهاض الوليد ؟

سألت ندى ..

- لا لم يعد يذكره وكأنه غير موجود ، بل نحن كزوجين لم نعد موجودين !!..

- أحضرت ندى كوب ماء لصفاء وسألتها :ان كانت ترغب بفنجان من القهوة 

شكرتها صفاء بابتسامة من بين دموعها ، فشجعتها ندى على إكمال حديثها 

-هل انتهت الامتحانات على سلام ؟

-نعم الحمد لله تجاوزناها نحن الإثنين ، وتسلمنا شهاداتنا وركبنا الطائرة للعودة ...

- قاطعتها ندى : وأنتما مازلتما تكتبان لبعضكما ملاحظات على الورق ..!!!

- هزت رأسها صفاء بالإيجاب : نعم . خرجنا من المطار واستقلينا سيارة الأجرة متجهين لبلدتنا، عندما دخلنا مشارف المدينة أعطى فيصل  السائق عنوان بيت أهلي . فرحت اعتقدت إنه يعمل لي خاطر ..أن أسلم على أهلي قبل الذهاب لبيتنا .

عند بوابة بيت أهلي توقفت السيارة وترجلنا منها ،طلب فيصل من السائق مساعدته في إنزال الحقائب وإدخالها للبيت ، بينما أسرعت أنا لمقابلة أهلي لأنني لم أرد أخبرهم بموعد قدومنا ، حتى لا يتكلفوا عناء السفر للمدينة لاستقبالنا في المطار .

أُدخِلَت الحقائب ومشى السائق ، ولم يدخل فيصل خرج والدي  لملاقاته...  ولكن لا أثر لفيصل أو سيارة الأجرة ...

استغرب والدي تصرفه ، ودخل مناديًا علي :صفاء ماذا يحدث...

مرة أخرى مسكت ندى نفسها ، حتى لا يرتفع صوت شهقتها ...

- لا تقولي تركك عند أهلك وغادر  !!..

-نعم ، وكل محاولات والدي للتواصل معه  باءت بالفشل .

حتى أهله لم يكن عندهم خلفية عم يحدث....

- فقد أخبرهم فيصل  : أنني مشتاقة لأهلي فأحببت أن أجلس معهم كم يوم . 

- وماذا  كانت ردة فعل والديك ؟ سألت ندى .

- دهشوا عندما  سمعوا حكايتنا  .. وعندما بدأت أمي تعبر عن استنكارها ، أوقفها والدي قائلا : دعينا لا نصب الزيت على النار ، دعيهما يرتحان من السفر ، وسأكلمه أنا ..

لكن لم يستطع والدي التواصل معه ، فأصبح يتواصل مع أهله ليبلغوه  ما يريد ، وخاصة عندما كانت المفاجأة عند الطبيبة إنني حامل بتوأم !!..

- ما شاء الله ، قالت ندى ولم يأتي لزيارتكم عندما سمع بذلك ؟..

- كانوا أهله يزورونا بشكل مستمر ، ويسألوا علي كل فترة الحمل ، ويحضرون هدايا سخية للأطفال القادمين.

أما فيصل لم أراه من يوم قدومنا من السفر ، وكأنه غير موجود بحياتنا أبدًا ..

هزت ندى رأسها بأسف واستهجان ..

_أكملت صفاء كلامها :  اتفق أهالينا أن لا يضغطوا عليه ، على أمل أن يغير رأيه من تلقاء  نفسه يوم الولادة ....

-وهل هذا ما حدث يوم الولادة ؟

- شربت صفاء قليلًا من  كأس الماء ، ومسحت دموعها التي تنهمر كمطر شتوي : احتجت لعملية قيصرية لولادة الطفلين ، وعندما صحيت من البنج كان الكل حولي وفيصل أيضًا ، وقد كانت فرحتي سعة السماء والأرض وخاصة عندما أحضرت الممرضة الأطفال ...

- سأل والدي فيصل :  ماذا تريد أن تسمي أولادك يا بني ؟

-رد فيصل :  تفضل ياعمي سميهما أنت ووالدي ..!!

وفعلا اختاروا لهما اسمين جميلين ، وافق الجميع عليهما .

ثم طلب فيصل أن يكلمني على انفراد ، فخرج الكل من الغرفة سعيدين ومسرورين .

- ندى :الحمد لله تقبلهما والدهما أخيرًا ...

-متلعثمة بحروفها هزت رأسها صفاء نافية الأمر .

وقالت : اقترب من سريري فيصل ، وقال لي الحمد لله على سلامتك .لقد أصبح عندك ولدين ، ينفعوك لمستقبلك .

وأخرج مظروف مقفل أعطاه لي ، وانصرف مستعجلا .

-هدية الولادة لابد ، إنهما ذكران  أيضًا ، لابد هدية كبيرة ....قالت ندى .

- نعم . ردت صفاء : إنها أكبر مما استطاع عقلي استعابها   ... (ورقة طلاق)

-جمدت الحروف على فم ندى المفتوح دهشة ، ثم صاحت ماذا ؟!!..

- على صوت صرخة ألمي دخل أهالينا الغرفة ، وخاصة عندما غادر فيصل مسرعًا  ...أكملت صفاء 

- وماذا فعلت ؟..

-أغمي علي ، وعندما صحوت اكتشفت إنني فقدت القدرة على النطق ..!!!

-غرت الدموع في عيني ندى ، وتمتمت هل هناك أقسى من قلب هذا الرجل ؟!!..

وسألتها : ألم تعرفي سبب رفضه للأولاد ؟

-ابتسمت صفاء ببلاهة :كل ما يقوله هو( لا يستحق هذا العالم أن نهبه أبناءً).

-ماذا ؟.. قالت ندى :اسمحي لي بسؤال شخصي باعتبارك صديقة الطفولة ولا تزعلي من جرأتي :هل يشكك في أبوتهما ؟!! ... 

-رفعت رأسها صفاء وأجابت : تخيلي مرت علي أيام وأنا أدعو الله أن يكون هذا هو سبب رفضه  لهما ، على الأقل هناك فحص مخبري يثبت بنوتهما أو.. لا ..!!

لكن لا مطلقًا لم يكن هذا هو السبب .

مذهولة ندى : قالت ماذا حصل بعد ذلك ؟..

-قضيت فترة تحت العلاج لأستعيد قدرتي على النطق قدم لي أهالينا الكثير من المساعدة والعناية بالتوأمين وعندما كبرا قليلًا ، اقترح علي والدي :  أن أبحث عن عمل آملًا  أن يجف نهر دموعي (على حد وصفه ) 

الذي  كان يزداد تدفقًا ، كلما راقبت أطفالي وهما يكبران ويخطوان خطواتهما الأولى ، ويتلعثمان بحروف الكلام ويخترعان أبجديتهما  الخاصة بهما .....

-وفيصل لم يحن ليراهما ولا مرة واحدة ؟ ...سألت ندى 

-فيصل انتقل الى المدينة وبدأ عمله هناك ، ولم يرجع لبلدتنا مرة أخرى .

- الآن ولداي أصبحا في سن دخول المدرسة ، وحاولت بكل الوسائل أن أحصل على أوراقهما الثبوتية من والدهما ، لكن لا حياة لمن تنادي ...

ولم أرَ أكثر منك ياصديقتي كفاءة في مساعدتي في حل هذا الموضوع .

قامت ندى بأخذ المعلومات الضرورية  لأخذ الخطوات القانونية ، وخاصة عندما عرفت أنه لم تنفع أي وساطة مع هذا الرجل المتعسف ...

وأخبرت صديقتها أن ترتاح والقضاء سيحل هذه الإشكالية 

بل سيجبره على  الإنفاق عليهما ..

-قالت صفاء : أنا لا أريد أي شيء منه ، الحمد لله إنني على رأس عملي ، وأهالينا لم يتركا حفيديهما بحاجة أي شيء

نظرت ندى لساعتها ، وأدركت أنه حان موعد العودة لقاعة المحكمة للنطق بالحكم ، فقامت بثبات وعزم من أخذ قرار مصيري واتجهت الى القاعة ..

في اليوم الثاني دخلت مساعدة ندى وبيدها مجموعة أوراق ووصل استلام يجب أن توقعه ندى ...

وكان من ضمن الأوراق :  الأوراق الثبوتية للطفلين..

وشيك مصرفي محرر لأمهما يدفع شهريًا بواسطة مكتب ندى كمصروف شهري للطفلين  ..

ووقعت أيضًا على قرار قبولها للعمل كمحاضرة في كلية الحقوق التي فتحت  حديثًافرع لها في بلدتها ....

بعد الإنتهاء من إعطاء مساعدتها ، كل الإرشادات التي يجب أن تقوم بها ، وضعت تلك الأوراق  المهمة في حقيبة عملها ، استقلت سيارتها في رحلة الى بلدتها الغافية على ضفاف البحيرة اللازوردية ، لتقف أمام دار للكتب ومكتبة عامة للقراءة في البلدة  ، وتدخلها بكل ثقة وعلى وجهها ابتسامة مشرقة ، بينما رفع أحمد صاحب دار الكتب هذه رأسه فجأة لتلتقي عيناهما وابتسم قائلا: " لقد غيرت أخيرًا أولوياتك"

كان أحمد قد عرض عليها الزواج قبل عدة سنوات واعتذرت منه لأن أولوياتها كانت الدراسة والعمل في المدينة ، وقال لها : سأنتظر يومًا ستغيري فيه  أولوياتك...

بقلم ناهد الاسطة

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنَّى لي بعِمَامةِ أبي

الحمل الوديع

أشواك للبيع