هل أكون بحارا ؟



 قصة ~ هل أكون بحارا ؟(الفصل الثاني)

الكاتب ~ عمر لشكر ~ يكتب..

~~~~~~~~~~~~~~

من قصص الحياة .

هل أكون بحارا ؟

الفصل الثاني .


صاح البراح ...

واخترق صوته الآفاق ، وتكرر برجع الصدى عند اصطدامه  بجبل باني ومرتفعات أزغار ، وانتشر في ربوع سوس بسرعة الضوء انتشار النار في الهشيم .

زغردت النساء في السواقي والواحات وعوالي الهضاب  والجبال زغردات امتزج فيها الفرح بالخوف .

الفرح بمطلع ألأنوار من بلد الأنوار ،

والخوف من فراق الإخوان والأبناء والأزواج  ، أو من خيبات الأمل التي قد تحدث عند رد أحد المترشحين  من الأقارب .

وكم من واحد في هذه الربوع رده موغا ردا مهينا ،  فصار في الدوار أو في القبيلة موضوع  الهمز واللمز والتندر والسخرية ! 

وجاء اليوم الموعود .

فحشرت  لموغا حشود من الشباب على شكل طوابير ممتدة على طول ساحة المشوار وسط المدينة الصغيرة التي كنت أدرس فيها .

تجمعت الحشود منذ الساعات الأولى من صباح هذا اليوم المشهود .

رغوة شباب سوس وصفوته تنتظر فرصة الرحيل .

كلها تلهث بدعوات الاستخارة والقبول .

ترجو الخلاص من باطن الأرض في مناجم فرنسا ، بعد أن قسا عليها سطح الأرض في بلدها .

وبدأ التدافع  عند اقتراب عملية التسجيل .

منظر سريالي  غريب يفضح ما كانت عليه قرى الجنوب من هشاشة عامة وفقر وخصاص وبؤس وتهميش  وإهمال ...

حتى بعض الموظفين الصغار اندسوا  في الصفوف ، وتزاحموا ، وتدافعوا كإخوانهم في القهر والبؤس .

دخلت الصف رفقة الصديق بنعثمان ، وهو نجار مختص ، قوي البنية ، طويل القامة ، يصلح للعمل في المناجم وفي تحويل جبال فرنسا إذا اقتضى  الحال .

جاء دوره فدخل .

تبعته في الحين ، خطوة بخطوة ، وبعد نصف ساعة دخلت خلفه إلى مكتب موغا .

لأول مرة أجدني وجها لوجه مع هذا الجبل المرعب ، الأسطورة المشهورة ، سمسار المناجم ، تاجر الرقيق في القرن العشرين .

وجدته شخصا متعجرفا ، حاد الطبع ، في غاية الغطرسة والقساوة  ، كثير الاحتقار  والاستهزاء ، يرتدي قميصا صيفيا أنيقا  بلا أكمام ، تبدو منه عضلاته المفتولة رغم سنه ، وأجمل ما فيه صلعته البراقة  ...!

نظر إلى نظرة سخرية واستعلاء  وقال لي بلسان فظ :

ما اسمك ، وكم عمرك ، وما وزنك ...؟؟؟

أجبته  بفرنسية أنيقة ، طليقة ، أدبية جميلة ، تعمدت اختيار جملها وألفاظها ونغماتها ...

ولم أكد أنتهي حتى قاطعني بقوله :

نحن نريد العمال لأجل المناجم  ... ولا نريد الشعراء ...

ارجع إلى قسمك ....

وانتهت المقابلة ، وذهب أمل الهجرة إلى الجحيم .

لم أكن أعرف أن موغا يكره من يتكلم بالفرنسية  بطلاقة ، ولا يريد إلا الأميين من الرعاة  والعمال اليدويين ...

يختار هؤلاء لسهولة تطويعهم ، وضبطهم  ، واستغلالهم ، وصبرهم على المهانة ...

لم يتكلف حتى عناء فحصي كما فعل بالآخرين الذين لم يترك فيهم عضوا من الأعضاء إلا  تأكد من صلابته وقوته ، خصوصا السواعد والأكتاف والصدور والأيدي والأقدام  ، ثم يؤشر على جلود المقبولين كما يؤشر البيطريون  على لحوم الإبل والبقر ...

إنها المهانة في أبشع صورها .

إنها " الحكرة " بالمفهوم  الاجتماعي للكلمة .

بشر أضحى في الاستقلال سلعة رخيصة يتاجر بها سماسرة  المناجم والأشغال الشاقة التي يستقذرها شباب فرنسا ولا يرضى بالعمل فيها .

خرجت من مقر الاستقبال والتسجيل أجر أذيال الخيبة ، ألعن القدر وموغا والزمان ونفسي والحظ والمناجم  والتاريخ والجغرافيا ....

إنها الانتكاسة  الأولى بعد الانقطاع عن الدراسة .

في المساء من نفس اليوم ، التقيت بصديقي بنعثمان الذي تمكن من إقناع موغا بصلاحيته  ،  وأشر  بطابعه على صدره .

لكن الحسم النهائي لن يكون إلا في عين برجة  بالدار البيضاء ، حيث يخضع المقبولون لفحوص دقيقة قل من يتخطاها  ...

لقد عدت إلى الفراغ وقلق الضياع ، وليذهب  موغا إلى الجحيم ، وليتركني  لأحداث  حياتية أخرى ...

تتبع .

الدكتور عمر لشكر

مايو  ٢٠٢٢ . 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنَّى لي بعِمَامةِ أبي

الحمل الوديع

أشواك للبيع