*** حركة بندولية ***






الأديب / إبراهيم مصري النهر/ يكتب
 


حركة بندولية


 حركة بندولية

في الشارع أثناء ذهابي إلى العيادة في يوم شديد الحرارة؛ بائع الفاكهة يمسك بخرطوم أصفر ملفوف خلفه على هيئة حلقات فوق بعضها، كلما مشى خطوة انفكت حلقة ويرش الشارع بالماء ليطفيء لهيبه، وبائعة الخضار تنثر رذاذ الماء على الجرجير والكزبرة، والناس تلتف حول بائع العرقسوس بزيه المميز وصوت صاجاته التي جمعتهم ليستقوا من مشروبه المثلج...

صعدت إلى العيادة وأخذت أجفف عرقي بالمناشف الورقية التي أمامي على المكتب، تناولت مرآة أخفيها في درج مكتبي، وبنظرة عاجلة تفحصت قيافتي وهذبت من وضع رابطة عنقي، استعدادا لدخول أول مريض...

أول مريض؛ سيدة في أواخر الثلاثينات من عمرها، نور وجهها يجبرك على غض بصرك، برفقتها رجل يبدو عليه علامات الثراء محتفيا بها غاية الاحتفاء؛ أخرج علبة مناشفه الورقية وأخذ يجفف عرقها، ساعدها في الجلوس على الكرسي المقابل لمكتبي، وعند الكشف حملها وأنامها على سرير الكشف، وخلع حذاءها، يحمل زجاجة ماء مثلجة كل فترة يفتحها ويسقيها بعضا منها، يكرر جملة "ألف سلامة عليكِ يا حبيبتي" وجمل أخرى من هذا القبيل.....

من هذه الجمل جملة لفتت انتباهي، يقول لها بود بعد أن سحب ستارة الكشف وألبسها حذاءها: (شفاك الله وعافاك يا أم عمر وتفرحي بنجاح عمر في الثانوية هذا العام وترينه دكتورا كبيرا كما تتمنين).

ردت عليه: يا رب يا أبو عمر.

إذن هذا الرجل زوجها وليس أخاها كما ظننت، وليس أيضا حديث عهد بالزواج بها، لماذا يتعامل معها بكل هذا الحب والاهتمام الزائد عن الحد على غير عادة المتزوجين القدامى؟! 

أكيد يفعل معها ذلك لمال سترثه عن أبيها، ذلك ما حدثتني به نفسي.

أخبرت الزوج عن طبيعة مرضها وكتبت وصفة العلاج، وداعبتهما قائلا: لقد لطفتما بالمودة والرحمة التي بينكما من حرارة الجو، قال: والله يا دكتور هذه الزوجة الصالحة اختيار أمي لي وهي ليست غريبة عني؛ ابنة خالي، ورزقني الله منها البنات والبنين، وعمر الكبير يحفظ كتاب الله مثل أمه، وأنا ميسور الحال وزاد الله يسري بعد زواجي بها، وأحضرت لها خادمة منذ تزوجتها لتقوم بعمل البيت. 


زممت شفتي السفلى فوق العليا ورفعت كتفيَّ وغاصت عنقي بينهما، وفي حركة مسرحية بسطت كفَّيَّ كناية عن التعجب. 

وانتزعت الوصفة من دفترها وأشرت بها إليها، 

لم تمد يدها لتأخذها ! 

قلت: تفضلي؛ لم يتحرك لها ساكنا !

نظرت إليها فإذ بحدقتي عينيها تتحركان حركة بندولية؛ 

ظللت واجما لثواني ! 

فالتقط الزوج الوصفة من يدي وقال: هكذا منذ عمر ست سنوات، إثر حمى أصابتها. 

د. إبراهيم مصري النهر

أخصائي الأمراض الصدرية

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنَّى لي بعِمَامةِ أبي

الحمل الوديع

أشواك للبيع