*** الأمومة المفقودة ***( ١ )






الأديب/ عامر علي أبراهيم / يكتب
 


الأمومة المفقودة



قصّة قصيرة ـ الأمومة المفقودة ـ ( الجزء الأوّل )

بقلم : عامر علي ابراهيم ـ

ـ تونس ـ

في إحدى حصص العلاج النّفسي سأل الطّبيب مريضته المستلقية أمامه على أريكة العلاج بعد أن لا حظ شراستها في كلّ ردّ فعل تجاه  من تختلف معهم  ممّن تعرفهم  وممّن ساقه سبيله إليها بلا سابق معرفة :

ـ أيّ شيء يزعجك أكثر في تصرّفات النّاس ؟

ـ  الظّلم  و الأذيّة  ، ككلّ النّاس  يُزعجاني جدّا ، لا  أتمالك نفسي أمام أيّ ظلم أراه  فأردّ الفعل

بوعي و بدونه أحيانا، أذيّة الأطفال  بقمع رغباتهم  بأيّ شكل لا أقبلها أبدا .

ردّ الطبيب و كأنّه إلتقط  خيطا يبحث عنه في كومة أوجاع مترسّبة بأعماق المريضة.

ـ  أتّفق معك ،بكلّ تأكيد  هذا يزعج ، لكن لا يمكن أن  يترك الطّفل لذاته . فهو قاصر يحتاج للتأطير ليتعلّم الفرق بين الصّواب و الخطأ ... الكبار دورهم منع الصّغار من الوقوع في الخطأ  و تحفيزهم لإختيار التصرّف الصّواب . أغلب الأطفال لا يتقبّلون الأمر بسهولة  لذا يقع اللّجوء للزّجر أحيانا . أنت قد ترين الأمر عنفا و أذيّة و غيرك يراه تقويما .

ـ لا أستطيع  كبح جماح غضبي على كلّ من يعامل الأطفال بما يحزن براءتهم .

ـ لذلك مارستِ بالأمس العنف على أمّ  فاشتكتك للقضاء.

ـ تصوّر  تشاجرت مع سيّدة لا أعرفها في متجر أمام الجميع . ستسألني كما سألوني في المخفر  : ماذا فعلت لك ؟ هل أذتك ؟

أجيبك : نعم  أذتني  و بقسوة  أيضا ، دفعت أمامها طفلها الصّغير بقسوة لا تحتمل لأنّه تسمّر أمام اللّعبة و طلب أن تقتنيها له .

كسرت قلبه بالرّفض و عنّفته  بالدّفع ، ملاك يعنّف أمامي و أصمت ؟ 

  إنّها تستحقّ كلّ الكلام الّذي وبّختها به و كلام آخر لم يتركوا لي الفرصة لأقوله لها :

 ماذا لو  بقي طفلها أمنيةً لم تطلها يداها ؟   كنت أحبّ ضربها أيضا  لأشفي غليلي  لكنّهم منعوني عنها .

ـ أنت تحبّين الأطفال بشكل مبالغ فيه لدرجة جعلتك  تُقحمين نفسك في مشاكل إضافيّة .

هل يعقل أن تُسمعي تلك المرأة كلّ ذلك الكلام الجارح لأنها دفعت إبنها بعنف أمامها حين أصرّ على الحصول على اللّعبة المعروضة في المتجر ؟  

 ترجّاها أن تشتريها له وهي لم تفعل لأنّ لها أسبابًا بكلّ تأكيد و كان لزاما عليها أن تتصرّف مع صغيرها ، دفعته أمامها بعنف و حنقت عليه ، أعرف أنّه أمر سيّء أن نرى طفلا صغيرا يعامل هكذا ... لكن ربّما الأمّ  شعرت بالإحراج  و لم تجد حلّا آخر غير ما فعلت . تصرّفت بما تراه  حقّا لها . أمّا أنت فما الحقّ الّذي تملكينه لتوبّخيها بتلك القسوة ؟.

علمت أنّك دفعت ثمن اللّعبة و الأمّ رفضت أن يأخذها الطفل منك . أتعرفين لماذا؟  ... 

أنتِ ألحقت بها أذيّة و ألما  حسب الحاضرين .

ردّت المريضة وهي تتأمّل السّقف كمن يقرأ شيئا واضح المعالم و يصعب النطق به .

ـ  الألم .. أي ألم  يعرفون  و أيّ أذيّة رأوها  .. كلّهم أوغاد ... كلّهم .

اقترب الطّبيب منها و قال :

دعي الأوغاد جانبا  و حدّثيني  عماّ تعرفينه من ألم .

ـ  أسْوأهُ ألمُ من فقد كلّ أطفاله . ألم من علم بمقتلهم جميعا و لم يستطع حتّى احتضانهم للحظة واحدة .... ألا يكفي هذا الألم ليكون لي حقّ الدّفاع عن طفل آخر يظلم أمامي و إن لم أكن أمّه ؟ هل تراني مثلما رآني أولئك  الحمقى في المتجر ، مذنبة ؟

كلّهم لاموني أنا .

سمعتهم يقولون متعجرفة لا تعرف ظروف الآخرين ، تصدر الأحكام بقسوة ..

كلامهم أضاف لألمي  ألمًا آخر  يُحرق داخلي .

ماذا يعرفون عن القسوة ؟ لا شيء .. لا شيء  مقارنة بما  تعرّضت له منها .

أتوجد قسوة  أشدّ من القتل ؟

 قُتل أطفالي كلّهم  و قُتلتْ أمومتي إلى الأبد .

يقال  أنّ الأمل خبز المحرومين ، الأمل يجعل الإنتظار حلوا  مهما  طال  الرّجاء . لكن فقدان الأمل  هو جوع المحرومين المتواصل و عطشهم  الأبدي ... ما فائدة  الحياة بلا أمل ؟ هل يعيش فاقد الأمل ؟ ... لا أعتقد ذلك .

يستكثرون على العطشان قطرة ماء و على الجائع فتات خبز بسيط  لا يروي  و لا يشبع ...

قال الطّبيب :

ـ  لكنّي أعلم أنّك لم  تتزوّجي و لم تنجبي أطفالا  فكيف ترين أطفالك قتلى ؟

غضبت من سؤال طبيبها الإستنكاري  و نظرت له نظرة عتاب وردّت :

ـ نعم  لم  أنجب  صغاري  لأنّهم  قتلوا  و لم أتزوّج  لأنّهم قتلوا . أتريد أن تفهم  الأمر؟

ـ أجل ... أستمع إليك .

( يتبع )

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنَّى لي بعِمَامةِ أبي

الحمل الوديع

أشواك للبيع