*** "سيدة المصعد"  ***






الأديب / مدحت صلاح/ يكتب 

"سيدة المصعد" 

 🔴

"سيدة المصعد" 

 

اسْتَيْقَظْتُ مِنْ نَوْمِي فِي كسلٍ لَذِيذٍ وَهُدُوءٍ لأَوَّلِ مَرَّةٍ مُنْذُ فَتْرَةٍ طَويلَةٍ بَعْدَ أَنْ انْتَقَلْتُ حديثًا تَارِكًا مَنْزِلِي الْقَدِيم الَّذِى كَانَ يَبعدُ كثيرًا عَن مَقَرِّ عَمَلِي وَكُنْتُ أُعاني الْأَمَرَّيْنِ يَوميًا مِنَ الاسْتيقاظِ مُبكِّرًا وَزِحَامِ المُواصَلاتِ، حَتَّى اسْتَطَعْتُ أَخيرًا الانْتِقَالَ إلَى مَسْكَنٍ مُناسِبٍ قَريبٍ مِنْ عَمَلِي فِي وَسَطِ الْبَلَدِ، حيثُ عِمَارَاتُ الْقَاهِرَةِ الخِدِيويّةِ الْعَرِيقَةِ ذَاتُ الطَّابَعِ المُميَّزِ المُحبَّبِ إِلَى نَفْسِي، حقًّا لَمْ يَكُنْ المَسْكَنُ يَقعُ عَلَى شارعٍ رَئِيسِ بلْ أَحَدِ تِلْكَ الشَّوَارِعِ الجَانِبِيَّةِ وَلَكِنَّهُ أيضًا يَمْتازُ بِالهُدوءِ وَنَفْسِ الطِّرَازِ الْمِعْمَارِيِّ وَالْأَهَمّ يُناسِبُ إِمْكانِيَّاتي الْمَادِّيَّة. 

 

انْتَهَيْتُ مِنْ طُقُوسِي الصَّبَاحِيَّةِ وَإِعْدَادِ قَهْوَتي وَالاسْتِعْدَادِ لِلْخُرُوج؛ ثُمَّ طَلَبْتُ سَيَّارَةَ أُجْرَة عَلَى الرَّغْمِ أَنَّ المشْوارَ قَصيرٌ لَكِنَّهُ كَانَ أَحَدَ أَيَّامِ الشِّتَاءِ الْمَطِيرَة، وَعِنْدَمَا أَغْلَقْتُ بَابَ الْمَنْزِلِ خَلْفِي تَنَسَّمْتُ عَبِيرَ عِطْرٍ أُنْثَوِيٍّ كلاسِيكِيٍّ قَدِيمٍ يَفُوحُ فِي أَرْجَاءِ الدَّرَج؛ أَتَى بِرَائِحَةِ الْيَاسَمِين، ضَغَطْتُ زِرَّ الْمِصْعِدِ الْأَثَرِيِّ الَّذِي هَبَطَ بِي ثُمَّ مَا لَبِثَ أَنْ تَوَقَّفَ فِي الطَّابَقِ الْأَسْفَلِ مُبَاشَرَةً. 

فُتِحَ الْبَابُ لِتَدْخُلَ سيَّدةٌ يَسْبِقُها عِطْرُها الياسَمينِيُّ الَّذِي تَنسَّمْتُ أَرِيجَهُ مِنْ قَبْل، شَملْتُها بِنَظْرةٍ فاحِصَةٍ سَرِيعَةٍ مِنْ بَابِ الْفُضُولِ لِلتَّعَرُّفِ عَلَى الْجِيرَان، كَانَتْ فِي بدايةِ الْعِقْدِ الرَّابِعِ مِنْ الْعُمْر، ذَاتَ جَمَالٍ هَادِئٍ وَشَعْرٍ أَسْوَدَ فَاحْمٍ يَنْسَدِلُ عَلَى كَتِفَيْهَا؛ يَتَنَاسَبُ مَعَ تايير أَسْوَدَ أَنِيقٍ أَتَى مَعَ حِذَاءٍ ذُي كَعْبٍ عَالٍ وَحَقيبَةٍ جِلْدِيَّةٍ أَنِيقَةٍ بِنَفْسِ اللَّوْن، تَتَأَبَّطُ الْيَدُ الأُخْرى حَافِظَةَ أَوْرَاقٍ كَبِيرَةً مِثْلَ تِلْكَ الَّتِي يَسْتَعْمِلُهَا الْمُهَنْدِسُونَ أَوْ الرَّسامونَ كَانَتْ وَكَأَنَّهَا خَرَجَتْ مِنْ فِيلْمٍ أَبْيَضَ وَأَسْوَدَ مِن أَفْلاَمِ سِتِّيناتِ القَرْنِ الماضِي. 

 

تَرَاجَعْتُ قَليلًا لأفْسِحَ لَهَا الْمَكَانَ وَمُحاوِلًا أَنْ أُزيلَ جَوَّ التَّوَتُّرِ حِينَ لَمْ تنبَسْ بِبِنْتِ شَفةٍ قُلْتُ: 

- صَبَاحُ الْخَيْر.

 

وَجِلَتْ قَليلًا وَنَظَرَتْ بِدَهْشَةٍ اسْتَغْرَبْتُها، وَفَجْأةً عَلَا وَجْهَهَا شَبَحُ اِبْتِسَامَةٍ وَشُعُورٌ بِالرَّاحَة، صَمَتَتْ قَليلًا تَتَفَحَّصُني ثُمَّ أَجَابَتْ: 

- صَبَاحُ الْخَيْر.

ثُمَّ أَرْدَفَتْ فِي سُرْعَةٍ، 

هَلْ تَسْكُنُ مَعَنَا هُنَا أَمْ إِنَّكَ زَائِر؟ 

 

- نَعَم، انْتَقَلْتُ حَدِيثًا بِالْأَمْسِ فَقَطْ أَسْكُنُ فِي الدَّورِ السَّادِس شُقَّة (٦٠٣) 

 

- أهْلًا بِكَ أَنَا أَسْكُنُ فِي الشُّقَّةِ الَّتِي تَحْتَكَ تَمَامًا الدَّوْرِ الْخَامِس شُقَّة (٥٠٣) 

 

- آدَم

 

- مَاذَا؟ 

 

- اسْمِي "آدم" 

 

انْتَبَهَتْ إلَى يَدِي الْمَمْدُودَةِ إِلَيْهَا مُصافِحًا، فَتَرَدَّدَتْ لَحْظَةً ثُمَّ صافَحَتْني قَائِلَةً: 

- أَنَا لَيْلَى 

 

كَانَ كَفُّهَا رَقِيقًا نَاعِمًا وَلَكِنَّهُ كَانَ بارِدًا كَالثَّلْج.

 

تَوَقَّفَ الْمِصْعِدُ، وخَرجَت لَيْلَى أولًا التي سُرّعان مَا تَوارت، بَيّنما اتَّجَهْتُ سريعًا إلَى السَّيَّارَةِ الْأُجْرَة وَلَكِنْ لَمْ أَجِدْهَا، انْتَظَرَتُ قليلًا ثُمَّ طَلَبْتُ الرَّقْمَ وبِغَضَبٍ مُفْتَعَل: 

- أَيْنَ أَنْتَ؟ 

 

- حَضرتك أَنَا انْتَظَرْتُ أَكْثَرَ مِنْ رُبْعِ السَّاعَةِ ثُمَّ اضْطُرِرْتُ لِإِلْغَاءِ الرِّحْلَة.

 

- هَذَا لَمْ يَحْدُثْ أَنا لَمْ أتغيَّبْ أَكْثَرَ مِنْ دَقَائِقَ مَعْدودَةٍ بِمُجَرَّدِ أَنْ نَزَلْت، هَمَمْتُ بِالانْفِعالِ وَعِنْدَهَا وَقَعَ بَصَرِي عَلَى سَاعَةِ معْصَمي وَإِذْ بِعَقارِبِها تُشِيرُ إلَى الثَّامِنَةِ وَالثُّلُثِ وَكُنْتُ قَدْ غادَرْتُ شُقَّتي فِي تَمَامِ الثَّامِنَة !! 

 

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . 

 

مَرَّ يَوْمٌ عَادِيٌّ مِنَ الْعَمَلِ الرُّوتينِيّ، إلى أن انْتَهيُت، ولأَوَّلِ مَرَّةٍ مُنْذُ سَنَواتٍ خَلَتْ أَعودُ إلَى مَسْكَنِي مُبكِّرًا وَخاصَةً سَاعَةَ الذُّرْوَة، وَعِنْدَ الْمِصْعَدِ الْتَقَيْتُ "ليلى" مَرَّةً أُخْرَى، وَبادَرَتْني بِابْتِسامةٍ قَائِلَة: 

- مَسَاءُ الْخَيْر.

 

- مَسَاءُ النُّور، 

وَلَمْ أَجِدْ مَا أَقُولُهُ فَسَأَلْتُهَا: 

- حَضرتك طَالعَة؟ 

 

ضَحِكَتْ في خفوت، وَفِي سُرعة بديهة قَالت: 

- وَهَل هُنَاك حَلٌّ آخَرُ وَنَحْنُ فِي الطَّابَقِ الأَرْضِيِّ؟

 

ابْتَسَمْتُ أَيْضًا وَقَدْ شَعَرْتُ بِبَعْضِ الْحَرَجِ مِنْ بَلاهَتي وَلَكِنْ أَنْقَذَنِي وُصُولُ الْمِصْعِد، فَأَشَرْتُ لَهَا بِالدُّخُولِ وَمِنْ ثَمَّ دَخَلْتُ خَلْفَهَا وَسَأَلْتُهَا:

- الطَّابَقُ الْخَامِسُ أَلَيْسَ كَذَلِك؟ 

 

- نَعَمْ مَنْ فَضْلِك، ثُمَّ أَضافَتْ لَمْ تَتَأَخَّرْ فِي عَمَلِكَ؟ 

 

- نَعَم، عَادَةً كُنْتُ أَنْصَرِفُ فِي الثَّالِثَةِ وَلَا أَصِلُ إلَى مَسْكَنِي الْقَدِيمِ قَبْلَ الرَّابِعَةِ وَالنِّصْف، أَمَّا الْيَوْم وَصَلْتُ فِي تَمَامِ الثَّالِثَةِ وَالنِّصْفِ وَدُونَ عَنَاء، فَارِقٌ كَبِيرٌ وَسَعيدٌ جِدًّا. 

 

- جَمِيلٌ جِدًّا، مَاذَا تَعْمَل؟ 

 

- أَنَا كَاتِبٌ رِوائِيٌّ وصحفيٌّ كما أعْمَلُ فِي إحْدَى دُورِ النَّشْر الْقَرِيبَةِ مِنْ هُنَا. 

 

- رَائِع، أَنَا فَنَّانَةٌ تَشْكيلِيَّةٌ وَأُسَوِّقُ أَعْمَالِي أَيْضًا قَريبًا مِنْ هُنَا فِي جاليري (معرض فني) مُلاصِقٍ للبِنْكِ الْأَهْلِيّ. 

 

وَصَمَتَتْ وَالْتَمَعَ فِي عَيْنَيْهَا حُزْنٌ بادٍ وَأَعْقَبَتْ قَائِلَة: 

 

- وَتِلْكَ هِيَ مَأْساتي.

 

وَصَمَتَتْ مَرَّةً أُخْرَى وَعِنْدَمَا هَمَمْتُ بِسُؤَالِهَا لِمَاذَا؟ كَانَ الْمِصْعِدُ قَدْ تَوَقَّفَ أَمَامَ شُقَّتِها، فَلَوَّحَتْ مُودِّعَةً وَهِيَ تَقُول: 

- لا تقْلَقْ لِلْحَدِيثِ بَقِيَّة. 

 

لَوَّحْتُ لَهَا وَأَكْمَلْتُ الصُّعُود؛ دَخَلْتُ إلَى شُقَّتي وفجأةً وَقَعَتْ عَيْنَايَ عَلَى سَاعَةِ الحَائِطِ المُقابل، كَانَتْ تُشِيرُ إلَى الرَّابِعَةِ؛ نَظَرْتُ إلَى سَاعَةِ معْصَمي كَانَت أَيْضًا كَذَلِك! 

هَلْ اسْتَغْرَقَ الصُّعُودُ إلَى هُنَا نِصْفَ ساعَةٍ كَامِلَة!! أَمْ إِنِّي قَدْ شَرَدْتُ بِعَقْلِي قَبْلَ أَنْ أَفْتَحَ الْبَاب، لَا .. هَذَا لَمْ يَحْدُثْ وَتَذَكَّرْتُ الْمَرَّةَ الْأُولَى فِي الصَّبَاحِ عِنْدَمَا تَأَخَّرْتُ عَلَى سَيَّارَةِ الْأُجْرَة، أَوْعَزْتُ الْأَمْرَ إلَى فُقْداني التَّرْكيز مِنْ فَرْطِ الْإِجْهَادِ أَثْنَاءَ فَتْرَةِ انْتِقالِي. 

انْشَغَلْتُ بِإِعْدَادِ طَعَامِ الْغَدَاءِ وَبَعْدَهُ القَهْوَةِ الَّتِي أُدْمِنُها؛ ثُمَّ تَفَرَّغْتُ لِبَعْضِ الْقِرَاءَةِ وَالْكِتَابَة، مَرَّ الْوَقْتُ وَفِي النِّهَايَةِ دَخَلْتُ إلَى مخْدَعي وَلَكِنْ انْتابَني الْأَرَق؛ أَخَذْتُ فِي التَّفْكِيرِ فِي عِدَّةِ أُمُورٍ انْتَهَتْ بِتِلْكَ الْمَرْأَةِ، هُنَاكَ شَيْءٌ غَرِيبٌ بِهَا لَا أَدْرِي كُنْهَهُ، وَلَا أَعْلَمُ مَا الَّذِي جَذَبَني إلَيْهَا فَعِنْدَ عَوْدَتي كُنْتُ أَتَمَنَّى لِقاءَها مَرَّةً أُخْرَى. 

 

فِي صَبَاحِ الْيَوْمِ التَّالِي تَوَقَّفَ بِي الْمُصْعِدُ كَمَا حَدَثَ بِالْأَمْسِ عِنْدَ الطَّابَقِ الْخَامِس وَدَخَلَتْ "ليلى" كَمَا رَأَيْتُهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ بِهُدوئِها وَلَمْحَةِ الحُزْنِ فِي عَيْنَيْهَا بِرَغْمِ الابْتِسَامَةِ عَلَى شَفَتَيْهَا والأَغْرَب أَنَّهَا كَانَتْ بِنَفْسِ الْمَلَابِسِ وَنَفْسِ حَافِظَةِ الْأَوْرَاقِ الجِلْدِيَّةِ الْكَبِيرَة، بادَرْتُها قَائِلًا: 

- صَبَاحُ الْخَيْر، هَلْ مُعْتادَةٌ الْخُرُوجَ فِي نَفْسِ هَذَا الْمَوْعِدِ دائِمًا؟

 

- صَبَاحُ النُّور، لَيْسَ دائِمًا وَلَكِنْ أَخْرَجُ مُبَكِّرًا هَذِهِ الْأَيَّامِ لِرَسْمِ بَعْضِ اللَّوْحاتِ عَلَى الطَّبِيعَة، لا أُحِبُّ الْمُكُوثَ فِي الْمَنْزِلِ كَثيرًا و .. وَخَاصَّةً لَا يُوجَدُ مَنْ يَفهَمُني .. وَلَيْسَ لِي أصْدِقَاء. 

 

نَظَرْتُ خِلْسَةً سَريعًا إِلَى كَفَّيْهَا فَلاحَظْتُ عَدَمَ وُجُودِ أَيِّ خَاتَمٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مُرْتَبِطَةٌ، فَقَطْ كَانَ فِي جِيدِها قِلَادَةٌ ذَهَبِيَّةٌ ذَاتُ شَكْلٍ مُتمَيَّزٍ وَلَا شَيْءَ آخَر، ثُمَّ قُلْتُ: 

- هَكَذَا هُوَ الْحَالُ دائِمًا مَعَ الفَنَّانِينَ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ الْحَيَاةَ بِمَنْظُورٍ آخَر؛ وَأَنْتِ فَنَّانَةٌ رَقِيقَةُ الْحِسّ. 


 إبتَسمَت في خَجَلٍ قائله:


- أَلَيْسَتِ الْكِتَابَةُ نَوْعًا آخَرَ مِنَ الْفَنّ؟ لَرُبَّمَا هَذَا مَا جَعَلْنَا نَتَقارَبُ سَريعًا وَنَتَحَدَّثُ وَلَيْسَتْ الجيرَةُ وَحْدَهَا؛ وَلَكِنْ لَيْسَ هَذَا مَا أَقصدُهُ، وَلَكِنِّي عَانيْتُ طَوَال حَيَاتِي مِنْ أَنَّهُ لَا أَحَدَ يَتَفَهَّمُني وَخَاصَّةً الْأَهْل، كُنْتُ طَوَالَ حَيَاتِي أَهْوَى الرَّسْمَ وَلَمْ يَكُنْ هَذَا مُشْكِلَة إلَى أَنْ جَاءَ يَوْمُ نجاحي فِي الثَّانَوِيَّةِ الْعَامَّةِ بِمَجْموعٍ كَبيرًا، كَانَ وَالِدِي يُرِيدُ أَنْ أُصْبِحَ طَبِيبَةً مِثْلَهُ وَأَنْ أَتَقَدَّمَ بأوراقي إلَى كُلِّيَّةِ الطِّبِّ وَهُنَا شَعَرْتُ أَنَّ حَيَاتِي كُلَّهَا وَإِرادَتِي تُسلبُ مِنِّي كَانَ الرَّسْمُ كُلَّ حَيَاتِي أَجِدُ فِيهِ مَا فَقَدْتُهُ مِنَ الْأَهْلِ وَالْأَصْدِقَاء، كَانَ مَلاذي الوَحِيدَ فِي هَذَا الْعَالَمِ الْقَاسِي، أُعَبِّرُ بِفُرْشاتي عَنْ مَا عَجَزَ عَنْهُ لِسَانِي، فَاتَّخَذْتُ حَقِّي وَخَالفتُ وَالِدِي لأول مَرة في حَياتي، وَتَقَدَّمْتُ إِلَى كُلِّيَّةِ الفُنُونِ الجَمِيلَة، وَهُنَا كَانَتْ الطَّامَّةَ الْكُبْرَى وَتَبَدَّلَ حَالُ وَالِدِي مِنَ الْحَنانِ إِلَى الْقَسْوَةِ وَمِنَ الرَّحْمَةِ إِلَى الْحِرْمَانِ وَاسْتَمَرَّ هَذَا سَنَوَاتٍ طَوِيلَةً حَتَّى تَخَرَّجْتُ وَأَيْضًا نِلْتُ بَعْضَ الشُّهْرَة وَلَكِنْ هَذَا لَمْ يَفُتَّ عَضُدَهُ أَوْ يُليِّنْ عريكتَهُ، كَانَ دَائِمَ الإِهاناتِ صَباحًا وَمَساءً. 

 

- أَلَمْ يَكُنْ هُنَا أَحَدٌ مِنَ الْأَقَارِبِ يُحَاوِلُ أنْ يُقَارِبَ وِجْهَاتِ النَّظَرِ أَوْ وَالِدَتُكِ عَلَى الْأَقَلّ؟

 

- حَاوَلَ الْكَثِيرُ وَلَكِنْ كُلُّ هَذَا لَمْ يَزِدْهُ إِلَّا عِنادًا فَقَدْ شَعَرَ إِنَّنِي أَتَحَدَّاهُ وَهَذَا لَمْ يَحْدُثْ أَبَدًا فَلَا يَعْلَمُ كَمْ أُحِبُّهُ وَأُقَدِّرُهُ، أَمَّا وَالِدَتِي فَقَدْ اتَّخَذَتْ جَانِبَهُ كَانَتْ تَخْشَى عليَّ .. 

وَانْهَمَرَتْ دُمُوعُهَا تُبَلِّلُ وَجْنَتَيْها الرَّقيقَتَيْن .. وَتَوَقَّفَ الْمِصْعِدُ فَانْطَلَقَتْ تُهَرْوِلُ خَارِجَهُ؛ وَعِنْدَمَا هَممْتُ بِاللّحاقِ بِهَا وَجَدْتُ قِلَادَتَهَا قَدْ سَقَطَتْ عَلَى أَرْضَيةِ المِصْعَدِ فَتَنَاوَلْتُهَا وَحِينَ خَرجْتُ خَلْفَهَا لَمْ أَجِدْهَا اخْتَفَتْ تَمامًا، وَقَفْتُ لَحَظَات أُفَكِّرُ فِيمَا حَدَثَ، قَلَّبْتُ الْقِلَادَةَ فِي يَدِي وَبَيْنَمَا أَفْعَلُ فُتِحَتْ، كَانَ بِدَاخِلِهَا صُورَةٌ لليلى تَقِفُ بَيْنَ وَالِدَيْهَا وَهِي طِفْلَةٌ فَكَانَتْ تُشْبهُها إلَى حَدٍّ كَبِيرٍ ثُمَّ أَغْلَقْتُهَا، وَحِينَمَا نَظَرْتُ إِلَى سَاعَتِي شَعَرْتُ بِالذُّهول فَقَدْ كَانَتْ تَجَاوَزَتْ الثَّامِنَةَ وَالنِّصْف، رَبَّاه؛ مَرَّتْ نِصْفُ ساعَةٍ كَامِلَة مُنْذُ خُرُوجِي مِنْ بَابِ الشُّقَّة !!! 

 

ذَهَبْتُ إِلَى عَمَلِي وَكُلُّ فِكْرِي مَشْغُولٌ بِهَا كُنْتُ أَشْعُرُ إنِّي عَاجِزٌ عَنْ فِعْلِ أَيِّ شَيْءٍ وَتَمَنَّيْتُ أَنْ أَلْقَاهَا عِنْدَ عودَتي عَلَى الْأَقَلِّ حَتّى أُعْطِيَهَا قِلَادَتَهَا وَلَكِنْ هَذَا بِكُلِّ أَسَفٍ لَمْ يَحْدُثْ فَتَرَكْتُ الْأَمْرَ حَتَّى الصَّبَاحِ كَالْعَادَة.


حِينَ هَبَطَ الْمِصْعِدُ لَمْ يَتَوَقَّفْ عِنْدَ الطَّابَقِ الْخَامِس وَلَكِنِّي نَظَرْتُ فَوَجَدْتُهَا وَاقِفَةً أَمَامَ شُّقَّتِها تَنْظُرُ لِي، ثُمّ تَابَعْتُ النُّزُولَ إلَى الطَّابَقِ الرَّابِعِ نَظَرْتُ أَيْضًا وَجَدْتُهَا وَاقِفَةً أَيْضًا وَتَكَرَّرَ الْأَمْرُ فِي كُلِّ طَابَقٍ أُهْبِطُ إلَيْهِ أَجِدُهَا وَاقِفَة، حَتَّى تَوَقَّفَ الْمِصْعِد، أُسْقِطَ فِي يَدِي وَلَمْ أدرِ مَا أَفْعَلُ وَلَكِنْ ضَغَطْتُ زِرَّ الْمِصْعِدِ صاعِدًا إِلَى الطَّابَقِ الْخَامِسِ وَلَمْ أَجِدْهَا وَقَفْتُ أَمَامَ شُّقَّتِها لَحَظَات ثُمَّ عَقَدْتُ الْعَزْمَ أَنْ أَدُقَّ الْجَرَسَ عَلَى الْأَقَلِّ حَتَّى أُعِيدَ لَهَا قِلَادَتَهَا، وَلَكِنْ لَمْ أَسْمَعْ صَوْتَ الْجَرَسِ فَحاوَلْتُ دَقَّ الْبَابِ فَإِذَا هُوَ مُوارَب، دَقَقْتُ مَرَّةً أُخْرَى وَمَرَّات وَلَكِنْ لَا مُجيب فَدَفَعَنِي الْفُضُولُ لِفَتْحِ الْبَابِ مُنَادِيًا، وَهَالَنِي مَا رَأَيْتُ. 

 

كَانَ الْمَنْزِلُ صَامَتًا كالقبورِ مُظلمًا إلَّا مِنْ بَصِيصِ ضَوْءٍ يَأْتِي مِنْ خَلْفِي مِنْ فَتْحَةِ الْبَابِ لَأَجِدَ الأثَاثَ كُلَّهُ مُغَطَّىً بِملاءاتٍ بَيْضَاءَ يَعْلُوهَا الْغُبَارُ وَنَسِيجُ العَناكِبِ يَعْلُو الْمَكَان، انْتابَني الْفُضُولُ أَكْثَر واعْتَراني القَلَقُ فَأَخَذْتُ فِي التَّوُّغلِ أَكْثَرَ إلَى إحْدَى الْغُرَفِ أَخَذْتُ أَجُولُ فِيهَا بِبصري مِن خلالِ الضَوء الشَحيح. وَفَجْأةً سَمِعْتُ فِي الْخَارِجِ صَوْتَ الْقُرْآنِ يَأْتِي مِنْ مِذْياعٍ يُصَاحِبُهُ صَوْتُ صُرَاخٍ وعَويل فَخَرَجْتُ مِنَ الْغُرْفَةِ لِأَرى الْمَشْهَدَ قَدْ تَبَدَّلَ تَمامًا وَامْتَلَأَ الْمَكَانُ بِبَعْضِ النِّسْوَةِ تَتَّشِحُ بِالسَّوادِ وَبَعْضِ الرِّجَالِ يُحَاوِلُونَ تَهْدِئَتَهُمْ تَارَةً بِالنُّصْحِ وأُخْرَى بِالْوَعِيد، لَمْ يُحَاوِلْ أَحَدٌ أَنْ يَسْأَلَنِي مَنْ أَنْتَ أَوْ يُبْدِي أَدْنَى اهْتِمَام، وَقَعَتْ عَيْنَايَ عَلَى سَيِّدَةٍ تُشْبِهُ مَنْ كَانَتْ صُورَتُهَا فِي الْقِلَادَةِ فَتَوقَّعْتُ أَنَّهَا وَالِدَةُ "ليلى" نَظَرَتْ إِلَيّ لَحْظَة وَلَكِنْ لَمْ تُوَلِّيَنِي أَيَّ اهْتِمامٍ أيضًا وَلَكِنْ نَظَرَتْ إِلَى صُورَةٍ مُعلَّقَةٍ عَلَى الْجِدَارِ فَنَظَرْتُ كَانَتْ صُورَةَ "ليلى" وَعَلَى رُكْنٍ مِنْهَا بَرَزَ شَرِيطُ حِدادٍ أَسْوَد . . . وَدُوِّيَتْ صَرْخَة. 

 

لَكِنَّهَا كَانَتْ صَرْخَةً صَادِرَةً مِنْ حَنْجَرَتِي أَنَا وَمِنْ دَاخِلِ غُرْفَةِ نَوْمِي، كَان كابُوسًا رَهِيبًا؛ اسْتَعَذْتُ بِاَللَّهِ وَقَرَأْتُ بَعْضَ آيَاتِ الْقُرْآن، وَحِينَمَا نَظَرْتُ إِلَى عَقَارِبِ الْمُنَبِّهِ بِجِوَارِي كَانَتْ تُشيرُ مُتَجَاوِزَةً الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ صَباحًا بِقَلِيل، كَانَتْ تَشّتَعِل داخل رأسي ألف لمْبة حَمراء تضيء وتنطفئ تصاحبها دقات ناقوس كمَزلقانِ سككْ حديديةٍ، لَمْ أَتَرَدَّدْ، شَرِبْتُ قَليلًا مِنَ الْمَاءِ وارْتدَيْتُ رُوبًا ثَقِيلًا وَخَرَجْتُ، فَتحْتُ بَابَ الْمِصْعِدِ وهَبَطْتُ إِلَى الطَّابَقِ الأَرْضِيِّ وَبِداخِلي كَمٌّ كَبِيرٌ مِنَ الرَّهْبَةِ وَكَمٌّ أَكْبَرُ مِنَ الْفُضُولِ وَحِينَمَا مَرَرْتُ بِشُقَّتِها انْتابَني الْخَوْفُ قَليلًا وَلَكِنَّهَا لَمْ تَظْهَرْ، طَرَقْتُ حُجْرَةَ الْبَوَّابِ وَكُنْتُ أَعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَنَامُ قَبْلَ الْفَجْرِ، فَتَحَ فِي دَهْشَةٍ قائلًا: 

  - خيرًا يَا أُسْتَاذ آدَم؟

 

- آسِف يَا عَمّ محَمد، سُؤَالٌ فَقَطْ، مَنْ الَّذِي يَقْطُنُ فِي الطَّابَقِ الْخَامِسِ شُقَّة (٥٠٣) الَّتِي تَقَعُ تَحْتَ شُقَّتِي مُبَاشَرَةً؟ 

 

 - هَل تَقْصدُ شُقَّةَ الدكتور "يوسف عبد القادر"، لَا يُوجَدُ بِهَا أَحَدٌ مِنْ فَتْرَةٍ طَويلَةٍ لَقَد تَرَكُوهَا وَانْتَقَلوا بَعْدَ حَادِثَةِ ابْنَتِهِمْ المُهَنْدِسَة "ليلى" رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْها.


سَمِعْتُهُ وَكَأَنَّمَا عَيْنَيَّ قَدْ بَرَزَتْ مِنْ محْجَرَيْهِما وَفَتَحْتُ شَفَتَيَّ فِي بَلاَهَة ثُمَّ تَمالَكْتُ نَفْسِي بَعْدَ لَحَظَات وَهُوَ يَقِفُ صَامَتًا وَسَأَلْتُهُ: 

- أَيُّ حَادِثَة؟ 

 

  - صَدَقّنِي يا بك ، لَيْسَ لَنَا أَيُّ ذَنَبٍ كَانَ المِصْعَدُ مُعَطَّلًا وَقُمْنَا بِوَضْع لافِتَةٍ عَلَى كُلِّ الطَّوابِق، وَلَكِنْ المُهنْدِسَة "ليلى" كَانَتْ خَارِجَةً فِي يَوْمٍ تَجْرِي وَلَمْ تَنْتَبِهْ وَفَتَحَتْ الْبَابَ فَسَقَطَتْ فِي بِئْرِ المِصْعَدِ و .. وَتُوُفِّيَتْ. 

 

صَمَتُّ فَتْرَةً مُفَكِّرًا ثُمَّ سَأَلْتُهُ مَرَّةً أُخْرَى: 

 

-هَل مَعَكَ عُنْوَانُ الدكتور "يوسف" الْجَدِيد؟

 

  - نَعَم، دَقِيقَةً وَاحِدَة اكْتُبُهُ لَك، فَقَطْ اسْمَحْ لِي لِمَاذَا قَدْ أَسْتَطِيعُ مُساعَدَتَك؟


لَمْ أَشَأْ إِقْحامَهُ فِي الْأَمْر، وَلَمْ أَكُنْ فِي حَالَةٍ تَسْمَحُ بِالشَّرْحِ وَالْكَلَامِ فَأَجَبْتُهُ: 

- بَعْضُ أَقَارِبِي عائِدونَ مِنَ الْخَارِجِ وَأُرِيدُ اسْتِئْجَارَ تِلْكَ الشُّقَّةَ لَهُم.

 

تَغَيَّبَ لَحَظَات ثُمَّ عَادَ بِالْعُنْوَانِ مَكْتوبًا فِي وَرَقَةٍ، شَكَرْتُهُ واتَّجَهْتُ صاعِدًا إِلَى شُقَّتي، وَحِينَمَا فَتَحْتُ بَابَ الْمِصْعَدِ وَجَدْتُهَا تَقِفُ بِدَاخِلِه؛ تَرَاجَعْتُ فَجْأَةً مِنْ هَوْلِ الْمُفَاجَأَةِ هَذِهِ الْمَرَّةِ، ثُمَّ تَمالَكْتُ نَفْسِي وَاقْتَرَبْتُ .. لَا أَدْرِي لِمَاذَا لَا أَخافُها وَلَا لِمَاذَا تَعَاطَفْتُ مَعَهَا قُلْت لَهَا:

- أَنْتِ .. 

 

- نَعَم مَيِّتَة.

 

- وَلِمَاذَا أَنَا؟

 

- لَا أَعْلَم، مَضَتْ خَمْسُ سَنَوَاتٍ وَأَنَا عالِقَةٌ حَائِرَةٌ أُحَاوِلُ الِاتِّصَالَ بِأَيِّ أَحَد، وَلَكِنْ لا يَراني وَلَا يَسْمَعُنِي أَحَد، حَتَّى رَأَيْتَنِي وَأُلْقَيْتَ تَحِيَّةَ الصَّباح، لَمْ أُصَدِّقْ حِينَهَا وَلَمْ أَجِدْ أَيَّ كَلَامٍ كُنْتُ قَدْ أَعَدَدْتْهُ سابقًا لِلَحْظَةٍ كَهَذِهِ.

 

- هَذَا يُفَسِّرُ سِرَّ تِلْكَ النَّظْرَةِ الَّتِى رَأَيْتُهَا عَلَى وَجْهِكِ وَرَدَّةِ فِعْلِكِ حِينَهَا، وَلَكِنْ مَا الّذِى جَعَلَكِ عالِقَةً هَكَذَا، وَلِمَاذَا كُنْتِ تُحاوِلينَ التَّوَاصُلَ مَعَ أَحَدٍ خِلَالَ سَنَوَاتٍ طَوِيلَة.

 

- أَوَّلًا الزَّمَنُ فِي عَالَمِي نِسْبِيٌّ فَمَا يَمُرُّ عَلَيْكَ فِي عامٍ كَامِلٍ قَدْ يَمُرُّ عَليَّ فِي لَحَظَات، ثانِيًا لَمْ أَعْرِفْ الرَّاحَة؛ كُنْتُ أُرِيدُ تَوْصِيلَ رِسَالَةٍ إِلَى أَبِي وَأُمِّي فَهُمَا أيضًا لَا يَعْرِفَانِ الرَّاحَة. 

كُنْتُ كَالْعَادَةِ تَشَاجَرْتُ مَعَ أَبِي وَاسْتَمَرَّتْ إِهاناتُهُ وَعِنْدَمَا فَاضَ بِي الْأَمْرُ فَتَحْتُ بَابَ الشُّقَّةِ وَخَرَجْتُ بَيْنَمَا هُوَ يُحَذِّرُني أَنِّي لَوْ خَرَجْت لَا أَعُودُ ثَانِيَةً، هُمَا اعْتَقَدُوا أَنِّي فَتَحْتُ بَابَ الْمِصْعَدِ وَأُلْقَيْتُ بِنَفْسِي عَامِدَةً مُنْتَحِرَةً وَهَذَا مَا يَجْعَلُهُمْ يَعِيشُونَ فِي عَذَابٍ دَائِمٍ شاعِرينَ بِالنَّدَمِ وَأَنَّهُمُ السَّبَب؛ وَهَذَا لَمْ يَحْدُثْ أَنَا حَقًا أَحِبُّهُم، كُلُّ مَا فِي الْأَمْرِ أَنَّنِي خَرَجْتُ وَالدُّموعُ تَمْلَأُ عَيْنَيّ، أَضَعُ كَفِّي عَلَى وَجْهِي فَلَمْ أَنْتَبِهْ لِلْوَرَقَةِ الْمَوْضُوعَةِ وَفَتَحْتُ الْبَابَ وَدَخَلْتُ لَأَسْقَطَ فِي بِئْرِ المِصْعَدِ وَكَانَتْ النِّهَايَة، تِلْكَ هِيَ الْحِكَايَة. 

وَالْآن هَذِهِ مُهِمَّتُك، لَا أَعْرِفُ كَيْف تَشْرَحُها لَهُم كَيْ يَرْتاحوا وَأَجِدَ رَاحَتِي وَمَعَكَ قِلادَتي اعْطِهَا لِأُمِّي. 

وَاغْرورِقَتْ عَيْنَاهَا بِالدُّمُوعِ وَكَأَنّمَا تَسَرَّبَتْ إِلَى عُيُونِي أيضًا حَتَّى قُلْتُ بِحُزْنٍ:

- أَلَنْ أَرَكِ ثَانِيَةً؟ 

 

- لا أَعْتَقِد، لَيْتَنِي قابَلْتُكَ مِنْ قِبَلُ عَلَى قَيْدِ الْحَيَاة، لَكَانَتْ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ قَدْ تَغَيَّرَتْ، رُبَّمَا الْتَقَيْنَا مِنْ قَبْلُ فِي عَالَمٍ آخَر، وَلَرُبَّمَا نَلْتَقِي مَرَّةً أُخْرَى فِي حَيَاةٍ أُخْرَى. 

 

وَفَجْأَةً وَجَدْتُ نَفْسِي أَقِفُ وَحيدًا .. قَدْ اخْتَفَتْ.

 

فِي الصَّبَاحِ ذَهَبْتُ إِلَى عُنْوَانِ وَالِدَيْهَا، فَتَحَتْ لِي امْرَأَةٌ مُسِنَّةٌ فِي اِبْتِسَامَةٍ وَجِلَة بِرغْمِ طَابَعِ الحُزْنِ الْمَرْسُومِ عَلَى وَجْهِهَا، عَرَفْتُ عَلَى الْفَوْرِ أَنَّهَا وَالِدَتُهَا مِنَ الصُّورَةِ فِي الْقِلَادَةِ، وَحِين سَأَلْتُهَا عَنْ الدكتور يوسف وَجَدْتُهُ يَقِفُ بِجِوارِها فَلَمْ أَعْرِفْ كَيْف أَبَدَأُ وَلَكِنْ فَجْأَةً وَجَدْتُني أَمُدُّ يَدي بِالقِلادَة إلَيْهَا، فَصَرَخَتْ فِي صوتٍ حَادٍّ وَكَلِمَاتٍ سَرِيعَة: 

 - هَذِه قِلَادَةُ ابْنَتِي، مِنْ أَيْنَ أَتَيْتَ بِهَا، لَمْ تَكُنْ لتَنزِعِها أَبَدًا وَلَمْ نَسْتَطِعْ العُثُورَ عَلَيْهَا حِينَ ...

وَأجْهشَتْ بِالْبُكَاءِ حَتَّى انْبَرى الدكتور "يوسف" وَتَقَدَّمَ نَحْوِي يَدْعُونِي لِلدُّخُول، وَبَعْدَ أَنْ حَكَيْتُ كُلَّ مَا حَدَثَ وَالَّذِي لَا يُصَدَّقُ لَوْلَا الْقِلَادَةُ وَبَعْضُ التَّفَاصِيلِ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، سادَتْ مَوْجَةٌ مِنْ الْبُكَاءِ بَيْنَ الْجَمِيعِ تَتَخَلَّلُهَا عِبَارَاتُ الرَّحْمَةِ وَالشُّكْر، وَبَعْدَ فَتْرَةٍ اسْتَأْذَنْتُ لِلِانْصِرَافِ مَعَ وَعْدٍ بِالزِّيَارَةِ مَرَّةً أُخْرى.


وَفِي طَرِيقِ عَوْدَتي إلَى الْمَنْزِلِ لَا أَدْرِي لِمَاذَا تَوَقَّفْتُ عِنْدَ "الجاليري" الَّذِي كَانَتْ تَتَعامَلُ مَعَهُ، وَحِينَ سَأَلْتُ الْمَسْؤُولَ هَلْ أَجِدُ بَعْضَ اللوحاتِ للفَنَّانَة " ليلى يوسف" اِبْتَسَمَ مُرَحِّبًا وَأَبْدَى اعْتِذَارًا فَقَد بِيعَتْ جَميعُها، وَفَجْأَةً نَظَرَ لِي بِدَهْشَةٍ مَحَدِّقًا فاغِرًا فَاه ! 

ثُمَّ قَالَ لَحْظَةً وَاحِدَةً وَتَغَيَّبَ قَليلًا ثُمَّ أَتَى بِإِحْدَى اللَّوْحاتِ قائِلًا: 

  - هَذِهِ اللَّوْحَةُ تَرَكَتْهَا هُنَا وَقَالَتْ لَا أَبِيعُهَا وَلَكِن أُهْدِيها فقط لِمَنْ جَاءَ يَسْأَلُ عَنْهَا وَيُشْبِهُك، وهذا هو أنت.

 

وَحِينَ أَزَالَ عَنْهَا الْغِلَافَ الوَرَقِيّ .. تَطَايَرَتْ فَجْأَةً الْأَوْرَاقُ وَفَاحَتْ فِي الأجْوَاءِ رَائِحَةُ الْيَاسَمِين، نَظَرْتُ خَلْفِي فَلَمْ أَجِدْ أَحَدًا وَحِينَ نَظَرْتُ إِلَى اللَّوْحَةِ اعْتَراني الذُّهُولُ فَقَدْ كَانَتْ صُورَتَي أَنَا .! 

 

" تَمَّتْ" 


© بِقَلَم / مدحت صلاح

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنَّى لي بعِمَامةِ أبي

الحمل الوديع

أشواك للبيع