***  نظرة للبعيد ***






الأديب/ إبراهيم مصري النهر  / يكتب 


 نظرة للبعيد


 نظرة للبعيد

أرسلت عينيها إلى الأفق البعيد عبر نافذة المقهى المطلة على البحر، أطبقت شفتيها، علَقت الكلمات في فيها ولم تخرج.

حاول اللحاق بعينيها لم يستطع، فهم أنها بهذه النظرة البعيدة أغلقت كل أبواب الاستمرار معه، ولم تدع له بارقة أمل في الرجوع مستقبلا.

بكبر خلعت الدبلة من بنصرها الأيمن، ووضعتها على المنضدة، وانصرفت في هدوء...

ظل ساعة بعدها جالسا بمفرده شاردا، أتاه النادل وهمس في أذنه، يطلب منه الانتقال من صالة العائلات إلى الصالة الأخرى المفتوحة.

نظر إلى النادل بشرود -ما زال مذهولا، لم يستوعب ما حدث، يلاحق سرابها يظهر ويختفي في صحراء قلبه القاحلة، يتساءل بأي ذنب قتلته؟!- تبسم له النادل وتركه ومضى رأفة بحاله... 

لم يمكث بعدها طويلا، وأخذ يلملم شروده، ويستجمع قواه، تحسست أنامله لفائف التبغ بمهجعها داخل العلبة الورقية وانتشلت واحدة، طوقت شفتاه طرفها الذهبي في قبلة بريئة، أشعل النار في طرفها الحر، فتجاوبت متفاعلة في شكل زفرات دخان نفثه من بين فتحتي أنفه وزاوية فمه، ثم نهض واقفا وغادر المكان الذي شهد لقاءاتهما المفعمة بالحب والهيام، مودعا إياه الوداع الأخير. وشت خطواته المتلكئة بمشية من افتقد عزيزا كان يطمع في الأنس بوجوده؛ فانحنت هامته، وتهدل كتفاه، وعقد يديه خلف ظهره، وسحب نفسا من لفافة التبغ ثم لفظ بقيتها مع حلقة الدخان -التي تشكلت بهيئة من كانت حبيبته للحظات ثم تبددت في الهواء- لتكاسله فك كفه المعقودة في الأخرى خلف ظهره، ويلقيها بصندوق القمامة من شدة الإحباط. 

مع أنها تعلم أنه لا عيب فيه، ولا تحمله أي خطأ، بل كانت ترى فيه الزوج الكفء، وكل مميزات الشريك المثالي، لكنها أرادت أن تلاحق حلمها وتعيش حياة أخرى بلا قيود أو أعباء؛ تدخل وتخرج كيفما تشاء، تلبس وتخلع ما تشاء، تنام وتصحو كما يحلو لها. حياة خالية من المسؤوليات. حرية مطلقة كما يسمونها. مسكينة، لا تدري أن الحرية المطلقة مفسدة مطلقة. 

أخبرت أهلها بما فعلت، متعللة بأنها لم تجد فيه فارس أحلامها؛ لامها الأهل والجيران على سوء صنيعها، لأنه فتى لا يعاب؛ ابن حسب ونسب، ومؤهل دراسي يكسبه مكانه اجتماعية مرموقة، وقبل كل ذلك ذو خلق ودين. 

تقدم لها الكثير بعده؛ رفضتهم بحجة أنها لا تفكر في الزواج الآن، مغترة بجمالها الفتان. أمها تنصحها: لا تتبطري. 


بدأ من كان خطيبها يوما من جديد وتزوج، لم يعلم عن أخبار من كانت يوما كل حياته شيئا، وما أراد أن يعلم.

مر عام ثم عامان، خلت الدنيا من حولها، تزوجت أخواتها الصغيرات وصاحباتها وزميلات الدراسة، شعرت بناقوس العنوسة يأتي صوته من بعيد على وجل، الذي طالما حذرتها منه أمها، وهي كانت تضحك وتسخر من نصائحها. أفاقت ولكن متأخرا؛ فلم يعد يتقدم لخطبتها إلا أرمل أو أعزب خالط الشيب شعره وذقنه وأقل مستوى اجتماعي ممن كانوا يتقدمون لها في سالف عصرها. 

 تضاءل شبح غرورها طرديا مع ذبول وردة جمالها كلما تقدم بها السن، بدأ الناس يلوكون سمعتها بألسنتهم، لم يعد يطرق بابها خاطب. ازداد شوقها وحنينها للزواج كلما رأت أولاد أخواتها وصاحباتها يحتضنونهن وينادونهن ب: يا أمي. وهي تنظر إليهم بحنان وألفة، وتنظر إلى أمهاتهن بغبطة ممزوجة بالحسرة وهن يدللن أبناءهن، ويشتكين من أزواجهن، ويقلن لها: (يا بختك، أنت حرة تستطيعين فعل ما تريدين). تبتسم وتنظر بحسرة هناك للبعيد.

الآن فقط انتبهت أن قطار الزواج فات، ولم يبق إلا ضجيجه، وصافرة وداعه، لم يعد أمامها إلا أن تفترش رصيفه وتتوسد الذكريات، بعدما أحست بفراغ قاتل، وفضاء قاتم. أيقنت كم كانت مخطئة، وشعرت بحجم الجرح، وعمق الطعنة التي أصابت بها كرامة من كان يوما خطيبها في مقتل، عندما تركته هناك في المقهى بلا مبررات. 

أرسلت إليه تعتذر، لم يقبل منها عذرا. بعد وفاة زوجته تعرضت له، ألحت عليه، تطلب الزواج منه. رفض. أدخلت وساطات متعددة لمداواة الجرح، لكنه صدهن جميعا.

قال لهن: أبلغوها أن قطاري قد غادر محطتها، وأخبروها أن من مات لا يعود، وأني الآن مَن ينظر للبعيد. 

د. إبراهيم مصري النهر

أخصائي الأمراض الصدرية

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنَّى لي بعِمَامةِ أبي

الحمل الوديع

أشواك للبيع