*** فضفضة ***
الأديب/ أبراهيم مصري النهر/ يكتب
فضفضة
فضفضة
وجدته في الصباح الباكر لأحد أيام الشتاء الممطرة، يرتدي معطفا أسود بهت لونه وسقطت بعض أزرَّته؛ ربما، تصدق به أحد الجيران عليه، أو اشتراه من الباعة الجائلين الذين يبيعون المستعمل. منتعلا حذاء من البلاستيك تحمَّل بطين الطريق الذي خلفه المطر، ويحمل في يده صرة يبرز منها حواف رغيف خبز جاف وبعض أوراق بصلة خضراء، ويشمر ذيل ثوبه بيده الأخرى ويجتهد قدر المستطاع تفادي بقع المياه التي امتلأ بها الطريق، لم يسمع صوت السيارة؛ يغطي رأسه وأذنيه ب كوفية مهلهلة. أظنه ورثها عن أبيه.
لم أستخدم آلة التنبيه مخافة أن يُفزع وينزلق في الطين. عندما اقتربت منه أكثر سمع الصوت وأخلى الطريق منحرفا إلى اليمين، بمحاذاته توقفت. نظر إليّ من خلف الزجاج الذي ما زالت بعض قطرات المطر عالقة به، فإذا به زميل ابتدائي لم أره منذ زمن بعيد، تسرب من التعليم برغم تفوقه بسبب وفاة أبيه. هو أيضا عرفني وعلت وجهه ابتسامة عذبة. ملت إلى الجانب الآخر بجذعي وجذبت الأوكرا -ربما لا يعرف كيف يفتح الباب- وما أن فتحت الباب حتى أخذ يلهج بعبارات الشكر والثناء، ويعتذر عن عدم الركوب لكي لا تتسخ السيارة بما يحمله حذاؤه من طين، ثم مسح حذاءه في عشبة جافة على حافة الطريق وركب بعد إلحاحي عليه.
سألته عن حاله، استرسل في حديث أدمى قلبي، وكأني متنفس ينشده وحبل أنهكه البحث عنه لينشر عليه همومه التي تعطَّنت من كتمانها في تجاويف قلبه، وأنا أتأمل التجاعيد التي غزت بلا هوادة ملامح وجهه، وعينيه الغائرتين اللتين ما زالتا خضراوين تعكسان طيف قلبه وتحملان شيئا من البراءة والطيبة، واستشعرت ما ينوء به كاهله المحمل بجبال من الأعباء أحنت ظهره، وصدره الضائق بشكوى حبسها بداخله لعدم وجود من يفضفض معه. يعمل أجيرا عند ذوي الأملاك مقابل عائد مادي يومي لا يسمن ولا يغني من جوع. أخذ يسرد عن الخفير والمُخبِر والمُحضَر والمُحصِّل الذين لم يرحموا باب داره من الطرق يوما، ثم انخرط في البكاء وكأن بركانا بداخله قد انفجر، وهو ينهنه ويتمتم بعبارات توقظ الضمائر النائمة:- لقد تركنا لهم الحكم والسلطة والمناصب والسياسية بغية أن يتركوا لنا أحذيتنا البالية، وأثوابنا المرقعة، ورغيف الخبز، وعود الفجل، وقطعة الجبن، والبصلة، ولكن يبدو أنهم يا صديقي استكثروا حتى هذه علينا ولا يرضيهم إلا أن يرونا صما بكما، جوعى، حفاة عراة،...
وفي خضم هذا البوح الحزين وعلى حين غرة باغتنا كمين شرطة، اعترض طريقنا، استوقفنا. عندما رأهم كأنما رأى ملك الموت؛ شحب وجهه، ارتعدت فرائصه، تفصد جبينه بالعرق برغم البرد الشديد. طلب منا أمين الشرطة بطاقة الرقم القومي، وعندما ضرب رقمه القومي على الكمبيوتر؛ قبضوا عليه.
وهم يجرُّوه نظر إليَّ نظرة من خلف الدموع التي تجمدت بعينيه، وقال: أ لم أقل لك، لا مكان لفقير مثلي في هذا البلد؟!
لا مكان لفقير مثلي في هذا البلد !
وظل يكررها حتى اختفى داخل البوكس.
د. إبراهيم مصري النهر
تعليقات
إرسال تعليق