*** صورة ***








 الأديب/ حسان العبدلي/ يكتب 

صورة

صورة 

كان يبتسم ابتسامة فاترة لا تكاد تظهر علاماتها على شفتيه وهو يمرّ بالأزقّة و يسلك الطرقات المتعرجة للمدينة، أما عيناه فتَشِي بعض التجاعيد التي تظهر على طرفيهما بابتسامته ، كثيرا ما كان متفائلا بنهاية يوم عمل جديد يُسعد  به قلوبا صغيرة  تركها هناك ، لم يمنعاه  رفشه و معوله  من المشي  على عجل و دون هوادة كأنّ أمرا ما يحدث في طرف المدينة ، يسير حائرا مرتابا على غير عادته وهو يرى حركة المارة لا تهدأ و الأصوات ترتفع  بصخب عنيد  و اللافتات تنتشر على طول الطريق الرئيسي و الأعمدة الكهربائية تتوشح  بأشرطة  تُزينها ، هو لا يهتمّ لما كُتب في تلك اللافتات بقدر اهتمامه لما يمكن أن يكون قد حصل ، صار يتحسس جسده لعلّه في حلم ، أو ربما  نام طويلا ليلة البارحة فتناسلت من ليلته عشرات السنين وهو لا يعلم فأضحت مدينة جديدة غير التي نشأ فيها و أحصى بدقة كل معالمها .
قطع تخميناته صوت أحدهم و هو يحث بعض عمال النظافة  "أسرعوا فالموكب بات قريبا."
تجعدّت عيناه أكثر و ظهر اصفرار أسنانه التي أذهب الشاي المُعتّق بريقها منذ عقود، قال في نفسه :" تلك هي جنازتي إذن، و أراني الآن أودّع مدينتي. " 
هاج المارة و ماجوا و علا صياحهم   فقال "لا بُدّ أنه حان موعد دفني" ، حاول الاقتراب أكثر ، غير أن تدافع الناس جعله يسقط أرضا فحدّث نفسه" أما الآن فوضعوني في قبري ،سيحثون عليّ التراب ." 
أخيرا وصل الموكب جادة الطريق أين كان يقف غير بعيد عنه ، هتف المتجمهرون  "أفسحوا المكان...أفسحوا المكان..." ثم توقفت سيارات فخمة كثيرة، نزلت منها كائنات ضخمة غريبة تضع ربطات عنق أنيقة شُدّت بقوة إلى الرّقاب ، ترجّل المسؤول المرموق كما يُنعتُ بذلك أصحاب السياسة الكرام ، صار العم سعيد يتمتم مستغربا " خبر موتي وصل إلى الحكومة ، هذا أمر مُريب !!!" 
وقف المسؤول المُفدّى و فرك اصبعيه ، فلا حاجة له أن يُكلّف نفسه عناء تحريك لسانه فإيماءة أو إشارة بيديه المباركتين تغنيانه عن ذلك . اصطفّ الجميع و عمّ السكون فظنّ العم سعيد أنّها اللحظات الأخيرة مع الجموع ، فسرعان ما ستبتعد أنفاس الحاضرين و تتركه وحيدا في قبره ...
"أين الرفش ؟  أين الرفش ؟ " صاح أحدهم ، هرع الجميع بحثا عما يقربه إلى صاحب السمو زلفى ،فيصيب مغنما  و ينال الرضا و التبجيل ، حينها  تأكّد العم سعيد أن ساعته أزفت فألقى نظرة أخيرة  إلى السماء يودّع بها بقايا أحلامه البسيطة الساذجة عند الكثيرين، شاهد ربطة عنق ضخمة أمام عينيه، فركها ، أعاد فركها،  فألفى نفسه أمام جلمود صخرٍ يدفعه و يطلب منه  التقدّم  صحبة رفشه و معوله ، قال في نفسه" كيف لي أن أدفن نفسي ،  إن هذا لأمر عجيب !" 
"أسرع ، احفر حفرة  تليق بمقام سيدي المسؤول ، نريدها حفرة  جميلة مرتّبة " صاح به أحد المقرّبين ، بسرعة أعدّ العم سعيد الحفرة وهو الذي خبِر ذلك منذ زمن بعيد ، حامدا الله أنها جنازة احدى الشجيرات التي اجتُثت من تربتها من أجل صاحب المعالي و السيادة ، مهنئا إياها بهكذا شرف عظيم.
"اليوم على بركة الله نفتتح مشروع -شجرة في كل متر مربع من البلاد- نريدها جنة على الأرض " قال صاحب السعادة واضعا الشجيرة مكانها ، هلّل الجميع و صفّق و أبرق الأفق بوميض تهاطل عليه لالتقاط صور للإنجاز العظيم، اقترب العم سعيد ليلتقط صورة مع الحاضرين تُثبتُ أنّه مازال يتمتع ببعض الأنفاس و أنّه من حفر الحفرة للمسؤول بجلال قدره و عظيم هيبته، دفعة قوية أسقطته أرضا فلم يعبأ لسقوطه غير رفشه الذي اتكأ عليه ليقف مستقيما .
في الغد، تصدّرت صورة المسؤول صحف البلاد وهو يمسك برفش العم سعيد و قد اختار بعضها عنوان " المسؤول المتواضع يحفر و يغرس و يأخذ بيد الكادحين"
                  حسّان العبدلّي

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنَّى لي بعِمَامةِ أبي

الحمل الوديع

أشواك للبيع