*** ذات حرمان ***






الأديبة/ حميدة الساهلي / تكتب


 ذات حرمان



 ذات حرمان


لم أتجاوز التاسعة من عمري حين خطوت أول خطواتي على رصيف النضج، فهمت الأشياء باكرا جدا، وأجهضت طفولتي باكرا جدا...

عرفت الآن لماذا لطمت أمي كف يدي في ذلك اليوم، حين أشرت بإصبعي نحو الواجهة الزجاجية المليئة بالدمى، مؤنبة إياي على سلوكي السيئ حسب قولها:

_"لا تشيري بيدك، سيقولون أني لم أعلمك أداب الطريق، وينعتونك بأسوأ الصفات"

لم يكن مهما إن كنت أفهم ما تعنيه حقا ولكني لمت في قرارة نفسي تصرفها ذاك، وأنه كان تعسفا على حقي كطفلة أغوتها نظرات الدمى الساحرة.

وأدت ملامح الطفولة في ذلك الصمت الذي يعتريها في كل مرة نمر فيها أمام واجهة ما، وأدركت الآن كم اكتوى فؤادها بقلة الحيلة... وكم من عذر غير مشروع وارت خلفه بؤسها، كنت  أراقب ارتباكها أيضا وتلعثم ملامحها وهي تقبض بقوة على يدي وتسحبني لأجاري حثيث خطواتها..

لم أعرف بعدها تفاصيل ما يحيط بالطريق  إلى المعهد ومنه إلى البيت وكذلك فعلت حين شققت درب الجامعة وسوق المدينة دون أن  يراود بصري زيغ نحو الواجهات. 

لا يمكنني أن أنسى البؤس الذي خيم على حياتنا في تلك الفترة من الزمن، في الحقيقة لم أكن أعلم أنها بائسة، إلا ذلك اليوم حين فاضت مآقيها بدموع العجز ولفظ صدرها بعض الآهات ورددت تلك الكلمات التي ثقبت طبلة أذني وقضت مضجع حلمي، وجعلتني أشيخ قبل اكتمال نصاب الطفولة..

_ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا.


كانت أمي عليمة بخبايا الذاكرة وبما ستدخره بين طياتها ليوم  العودة لتلك الطفلة التي وأدتها يوما ما.  

__________

حميدة الساهلي

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنَّى لي بعِمَامةِ أبي

الحمل الوديع

أشواك للبيع