خبز بلدي



 قصة ~ خبز بلدي 

الكاتب ~ ابو القاسم محمود ~ يكتب...

~~~~~~~~~~~~~~~

خبز بلدي :


أيقظني خوار البقر، هدير الجمال  .. 

رأيت منزلنا القديم وقد بدت نواجذه يضحك ملء شدقيه ، وعلى سقفه الخشبي ينشد الحمام لحن العودة هديلا منظما،

 لمحت من بعيد  والدي منتصبا وسط القطيع،

الشمس تميل منحنية نحو الغياب، أشعتها الذهبية تدب خلف الزوايا اللامرئية فاسحة المجال للسواد..

 من جيب فوقيته الزرقاء يتسلل رأس خروف صغير وضعته أمه هذا المساء ، 

سمعت ثغاء النعجة  وعيناها لا تفارقان صغيرها ، تسابق خطوات الوالد، تمضغ أطراف لثامه المتدلي من على كتفيه..

رأيت الجداول عاودتها الحياة ، وبدت  يد أمي تداعب ضرع شاة ، ينسكب الحليب من بين أناملها حبرا يكتب للحياة،

سمعت خرير المياه متنقلا بين سواقي الإسمنت القديمة بعد غياب طويل  ..

أبصرت رجالا نصف عراة يقلبون جوف الأرض وأطفال يتقافزون على أشجار الدوم وبين فروع التين ،

 يستظلون بعد الإعياء تحت ظلال الرمان المتناثر ، 

رأيت رجلا يسكن علياء النخل ، يرمي عرجونا على فراش مبسوط فوق الأرض ليخرج منه نصاب الزكاة .. 

رأيت سواد الليل يضيق ، وأشعة منبثقة تطارد سحب الظلام، أحدق في السنابل ملأى متدلية تعانق العابرين و أرقب  طيور السنونو تحيي صمود البيلسان ، 

سمعت تغاريد أسراب القطا وهي تحط للتزود بالغدير ، 

و نقيق الضفادع وهي تؤدي رقصة الربيع بصوت موحد ..

 عاينت سيد الأزاهير شامخا وسط الفل والياسمين

 ورأيت زنبقة بيضاء في مركز حينا تبحث عن عريس مفقود .. أدهلني رضيع يحبو ، يمازح ببراءة عجلا دار عليه الحول ..

و رأيت عند غروب الشمس طيف مسن يعانق فأسه  وعجوز متشبثة بطبق البلح توزعه على المرور ، ولمحت  دلوا مثقوبا في يد فتاة يرش الماء على الجنبات فتنمو الورود على الرصيف.

رأيت باسقات النخل تؤدي رقصة باليه وأبصرت أشجار الكروم تصافح بعضها بعضا ، رأيت فاكهة التين والزيتون ، رأيت الموز منحنيا إلى الأطفال مبتسما و عناقيد العنب تتدلى مقبلة أفواه الزوار 

سمعت فلاحا يشدو موسيقى الجاز على أعتاب جراره ، يمسح دمع الليل عن وجه الزجاج والصباح ، ورأيت سلوقيا يداعب صغار الجدي والخرفان .

رأيت السرو والصفصاف منتظرا طلوع الشمس ورأيت الزيزفون يقبل خشم الأعالي ، رأيت بعض النخل يسجد للرب فجرا ..

رأيت حقول الدرة الخضراء تبتسم في وجوه العابرين إلى الحصاد ، وطربت لصوت الناي يمسكه الرعاة فيخرجون من ثقوبه ألحان الفخر .

رأيت غيوما تعانق شوقا تراب الحيطان ، 

سمعت همس الندى على الأبواب الخشبية 

رأيت الأعشاش تغادرها الطيور خماصا ..

وشممت طعم الفول مطهوا على أخشاب الطلح..

ونسيم الشاي والقهوة..

 خبز الأفران الطينية أسال  لعابي من تحت الغطاء 

وأخرجني إلى المجهول 

فرحت أبحث بين مدخنات الأفران 

عن خبز تسللت روائحه بين أغطيتي.


-أبوالقاسم محمود 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنَّى لي بعِمَامةِ أبي

الحمل الوديع

أشواك للبيع