رجل على المعاش
قصة ~ رجل على المعاش
الكاتب ~ د. إبراهيم مصري النهر ~ يكتب..
~~~~~~~~~~~~~~~~~~
رجل على المعاش
أصبح يركز في الحاضر ويعيشه، وحيدا في شقته المجاورة لمحطة القطار، ولكن في الوقت الضائع.
في الماضي كان يشتته عن الحاضر عمله الدائب وقلقه بشأن المستقبل.
عقله الممتلئ بالأشياء بات فارغا.
هل افتقد لحماس الشباب وطموحه واندفاعه ومغامراته العاطفية التي باءت جميعها بالفشل؟
كأنما غادرته دفعة واحدة !
كما لو أنه أصبح رجلا آخر، وزنه خفيف في ميزان الحياة، يكفيه منها لقيمات يقمن صلبه وثوب يستره، ينظر الآخرون إليه ولا يعبأون به، لا يرونه إلا عجوزا في آخر محطاته بعد أن ضعف بصره ووهن عظمه. في الماضي كان هذا التجاهل يزعجه، ويجعله يختلق المواقف ويرتدي الملابس التي تلفت أنظار الآخرين إليه، وبعدما أصبح مدير المصلحة الحكومية التي كان يعمل بها لم يكن يستطيع السير في الشارع بسبب تهافت الناس عليه واهتمامهم به، وهذا أيضا سجن من نوع آخر يعاني منه المشاهير. لكنه لا يشعر بشيء من ذلك الآن، بل ربما هذا التجاهل يشعره بحريته بل وسر من أسرار سعادته؛ ليس هناك عيون تترصده، وتنتظر عثرته، ولا أناس تتملقه لتتسلق سُلَّم رفاته. فعندما من حولك لا ينتظرون منك شيئا ولا تنتظر منهم شيئا تظهر صورتهم على حقيقتها جلية، صورة باهتة بالأبيض والأسود فقط.
لكن استعداده للسعادة، وحبه للمرح نفعه دوما، تخطى به أحزانه، كجرعات الدواء ساعده على الشفاء.
يخرج من شقته، يستنشق هواء الغروب اللطيف، السماء مسربلة بلون الشفق، ينظر إليها بعينين نديتين، وبأحلام نائمة، يخطو هائما لا يبحث عن شيء، لم يعد يبحث عن شيء أو ينتظر شيئا. ترافقه ذكريات الطفولة، تنقر رأسه نقرات خفيفة تشعره بوجودها...
يعزي نفسه بتلك الكلمات: الحياة تبدأ حين تتقدم في العمر وتكون أعزب، بلا مسؤوليات على عاتقك، أنت ونفسك فقط.
في طفولته كان يهوى السير على قدميه، يجتاز المسافات الطويلة، يصاحبه شعور بالبساطة، إنه أمر اعتيادي يفعله كل الناس بسبب ندرة السيارات آنذاك، في ذلك الزمن البعيد الجميل.
على النقيض من ذلك الآن، يبدو الجميع غير قادرين على المشي خطوتين دون الاستعانة بالسيارة. قبل أن يتقاعد من عمله كان واحدا منهم، وبما أنه متقاعد حاليا وبلا سائق ولا يقود السيارة فقد اضطر وبحب كبير إلى استعادة عادته القديمة: المشي في الطرقات، الوقوف على الأرصفة، مشاهدة مواكب السيارات متجهة دوما إلى مكان ما. تبهجه حركة الحياة وضجيجها.
خمدت جذوة رغباته، ونضب معين شغفه الذي بين جنباته، ليس يأسا وقنوطا وإنما إحساس بالرضا بما هو عليه.
يحظى بأيام مختلفة، يأكل في المطاعم، يجلس في الكافيه أمامه قطعة حلوى وكوب من القهوة. تمده أيدي الأيام بالحنان المتأخر كثيرا بسخاء، يفرحه هذا، يمنحه الطاقة للخروج من المنزل والمشي في الطرقات بدون هدف مرات ومرات، حتى أيقظته ذات يوم صافرة القطار معلنة الوصول إلى المحطة الأخيرة.
د. إبراهيم مصري النهر
تعليقات
إرسال تعليق