أمل
قصة ~ أمل
الكاتب ~ ابو القاسم محمود ~ يكتب...
~~~~~~~~~~~~~~~~~
أمل:
مفترشا فرو خروف، مستندا إلى جدع شجرة ، تحكي لها كتفاه المنهكتان روايات عقود خلت ، كحته المنبعثة بصعوبة من جوفه نحو الخارج بالكاد يسمع صوتها!! رجل جاوز الخمسين ، يبدو أكبر من سنه بثلاثة عقود ،
يرابط على هذه الحالة منذ زمن، كلما أزعجه الصغار توكأ على عصاه ودلف نحوهم يطاردهم بخطوات متثاقلة ، يستند إلى جدران البيت ليهش عليهم طالبا منهم الإنسحاب ، قائلا :
إنكم تزعجونني،
حتى لو لم يلعبوا على مقربة من هدوئه البادي سيبحث عن أحد المارة ليتهمه بالإزعاج ،
الفوضى ليست في محيطه فهي تسكن دواخله ،
لحسن حظه أن أطال الله بعمر والدته وإلا لكان ٱخوته باعوا البيت وقسموه بينهم وتركوه للمجهول ،
لا تزال تحن عليه ترابط على مقربة من أوجاعه ، تلملم سريره ، تشتري له السجائر والدواء والملبس ..
كانت تزوره كل يوم جمعة لعامين متتاليين في مركز التعافي من الإدمان، واضبت على الإتصال بالدكاترة المعالجين والإدارة و وفرت كل متطلبات شفائه حتى خرج معافى بشكل كلي ..
كان دعاؤها عقب كل فرض و نافلة : (اللهم لا تمتني حتى أرى أولاد عزيز ) ، تتخيل نفسها وهي تراقصهم ، تداعبهم ، تتكفل بمصاريفهم الدراسية ، تصنع لهم كعك العجائز ليلة العيد ، تصرخ أحيانا قائلة (لن يسميهم أحد غيري واهم من يعتقد ذلك ) لتكتشف أنها تحدث نفسها في كل مرة..
لم تقم وزنا لكل إخوته الذين أعقبوه ذكورا وإناثا ، هو البكر ، رجل البيت ، لا زالت تتذكر صولاته بعد موت والده ، كيف بدا رجل البيت ، كيف شد من أزرهم وهم صغار ، كيف دافع عنهم، كم سهر الليالي جائعا ليطعمهم ، كم تعرى ليوفر لهم الملبس .. يمر شريط الذكريات أمام عينيها ، لم تحضر مناسباتهم واعتبرت زيجاتهم خروجا عن المألوف و تحد للياقة وإنقاصا من شهامة رجل ضحى من أجلهم ، حضرت على مضض حفلات عقيقة أحفادها لسد أفواه الجيران وبعد مفاوضات شاقة وعسيرة أقنعتها فيها النساء بوجوب الحضور ..
يقولون لها في كل ٱجتماع أسري نحن أول من سيفرح لعرس عزيز ، وسنتكفل به كليا ، لكن عليك أن تقنعيه بهذا المشروع ،
ترد : أنتم من عليكم إقناعه ، وقت زواجه المناسب سمح في نفسه ليتفرغ لتربيتكم ، لحم أكتافكم هذا -تضرب أحدهم على مقدم يده- من تعبه وعرقه ..
- يهمس أحدهم في أذن الأم "عندي لك الحل ، ولدك مسحور ولدي عنوان سيدة تفك السحر"!! نحن في عمر أبنائه ولن نفتح معه موضوعا كهذا (حشومة).
تشبثت بمعصمه : أعطني العنوان ،
-كتب لها العنوان ومضى، كان يسعى لأن ينهي هذا الجدال العقيم المتجدد، أنقذه هذا العنوان الذي تسلمه ذات سفر في حافلة قادمة إلى هنا .. لم يدري أنه سلمها المفتاح لتحقيق سعادة مؤجلة وأحيا أملا كان على شفير حفرة.
أخرجت فراشا خارج البيت، ٱحتمت بظل شجرة زيتون وبسطته على الأرض ، دخلت البيت ، خرجت ممسكة بيده تداعب مفرق رأسه ، تمسح جوانب شفتيه بمنديل ،
هاجمته على حين غرة : أتريد أن أموت قبل أن أشبع منك؟
-من قال هذا يا أماه ؟! طلباتك - ووضع يده على جبهته- على رأسي .
- أريدك أن تكمل دينك يا ولدي ، ألم يئن أوان فرحنا يا بني؟ أريد أن أرى ذريتك اليوم قبل الغد..
- ليس بيدي يا أماه ، تجاوزتني الظروف ، تأخرت كثيرا ،
- لم تتأخر ، الرجال لا يموتون أبدا أبدا ، ثم أن تأتي متأخرا خير من أن لا تأتي ، بالله عليك لا تردها في وجهي هذه المرة.
- لكن كيف ، كيف ؟
-كل ما عليك هو الموافقة
- تعرفين يا أمي أني رجل رجه الزمن رجا، اقتلع الدهر مخالبه .. ألا تفكرين في مصير هذه المرأة التي تسعين لربطها برجل أعجزه الدهر ؟
- تحركت من عنده بسرعة البرق وقد عاد بها الزمن لسنين الجهد ، وهي تربت على كتفه : كل شيء على ما يرام ، سأرتب كل شيء .
أوصت أخته بالذهاب به كل اليوم للحمام مع ٱستعارة (كسال) للتكفل به بشكل يومي ، وٱنطلقت نحو (قارئة كف) شهيرة ، حكت لها الحكاية وأصرت عليها بضرورة العزف على أوتار رجولته ،
قولي له : فك الله عقدتك لقد كنت مقيدا بسلاسل فككناها بالقرآن ، أنت اليوم في أوج شبابك .
بعد كل حصة ساخنة في حمام الحي يجد أمه وقد أعدت العدة ، يقدمون له قارورة ماء تم قراءة الرقية الشرعية عليها يأمرونه بشربها ورش القليل منها على بدنه ، تقرأ المرأة بعض الطلاسم واضعة يدها على رأسه : لقد فك الله أسرك .
لمدة أسبوع يكررون نفس المشهد أمام ناظريه ، يرددون نفس العبارات على مسامعه ، يسقونه حليبا ساخنا مخلوطا ببعض الأعشاب المقاومة للبرودة ..
تفجر بركانه فجأة، تغيرت ملامحه، ٱستوت مشيته قليلا .. نادى في صباح اليوم الثامن على والدته : لنتوكل على الله ، لقد كدت أهلك ..
إذهبي لتختاري زوجة تناسبنا أنا وأنت ،
كانت تضع نصب عينيها العروس قبل كل هذه الإجراءات ، وقد فاتحتها ذات يوم في عزيز فلم ترفض ، وطلبت منها التشاور مع والداها اللذان يمتلكان زمام أمرها ..
كانت أمل جاوزت هي الأخرى سن الخامسة والثلاثين ولعلها وعزيز كانا قد قيدا بالسلاسل نفسها وفكا بعزيمة هذه العجوز التي ظلت مؤمنة بحقهما..
حددوا موعد الزواج ، أصرت على تعويض ما فاتها فبالغت في كل شيء وحولت الحي ضجيجا منظما يتناوب على رقصاته أجواق من كل حدب فرحا بمناسبة قد تكون الأخيرة ولا ينبغي لها أن تمر عادية ، جالت الأسواق اليومية ، اشترت أكياس الحناء، القرنفل ، أعدت الحلوى ، ذبحت عجلها المفضل وخروفها الذي يتبعها بين البيوت وبدأت حفلتها قبل الأوان .. فتحت كل خزائنها ، متطلبات أعراس تحتويها صناديقها الحديدة ، كانت تجمع كل شيء لغاية وحيدة وهاهي تتحقق، لا معنى اليوم للأقفال ..
تقول وقد لبست أحلى الثياب وتعطرت بعشرات العطور المختلفة ، وخضبت أقدامها وراحتا يداها بالحناء : وزعوا الفرحة على الجميع، من لم يفرح اليوم فليس منا ، إشتروا بسمة الجميع ، تعلق الأوراق النقدية على صدور العازفين وتتمايل .
- أبوالقاسم محمود
تعليقات
إرسال تعليق