الأعمى



 قصة ~ الأعمى 

الكاتب ~ محمد وسوف ~ يكتب...

~~~~~~~~~~~~~~~

:الأعمى

التقيت به منذ مايقارب العشر سنوات، عندما كنت في عيادة طبيب الأسنان، رأيت شاباً يصعد درج البناية مترنحآ،وهو يحاول لمس الحائط ليستند إليه، ثم صاح: فليساعدني أحدكم، فهرعت إليه لأسنده كان الإعياء يبدو واضحآ عليه، استعلمت منه عن بيته فقال أنه في الطابق الثالث، أخذته وطرقت الباب ففتحت أمه وصرخت في وجهه: ياويلي، ألم أقل لك لاتذهب!؟

دخلت معه ووضعناه على سريره، شعرت بقوة تقول لي ابق بجانبه، جلست بقربه قرابة الربع ساعة حتى كسر الصمت قائلاً:

《 أشكرك ياسيدي، اسمي عيسى وأعرف هنا في الحارة بعيسى الأعمى، أنا ياسيدي شاب أعمى وتأتيني نوبات غثيان قد تؤدي إلى الإغماء أحياناً لذلك طلبت مساعدتك》

《لاعليك، اسمي محمد استاذ فيزياء في مدرسة خاصة》

طلبت مني أمه أن أتركه يستريح قليلآ، جلسنا في غرفة الضيوف وقصت علي قصته

《عيسى ولدي الوحيد لم نرزق بغيره، هو اليوم في الصف الثالث الثانوي، قبل ستة أشهر من اليوم وبالتحديد في آخر يوم من إمتحانات العام الدراسي الفائت، كان يقف منتظراً أصدقاءه عند باب المدرسة حين انفجرت عبوة ناسفة استهدفت تجمع المدارس هناك، فشاءت الأقدار أن يصاب بشظايا متفرقة اخترقت إحداها جمجمته لتستقر في دماغه، بقي غائباً عن الوعي لثلاثة أيام فقدت الأمل منه، ثم استيقظ وهو يقول أنه لايرى شيئاً، نتائج الفحوصات أشارت إلى أن الشظية استقرت في الباحة البصرية في الفص القفوي لدماغه، أي أنه وبحسب ماقال لنا الطبيب سيعيش أعمى، ثم قال أنه هنالك بصيص أمل ولكن إعادة بصره لن يكون بالأمر السهل بل أشبه بالمستحيل، فهو يحتاج لعمل جراحي ولا يمكن إجراؤه في بلادنا لعدم توفر الإمكانات والخبرات اللازمة، ومنذ ذلك اليوم اجتاحته نوبة كآبة، يقضي يومه وحيداً صامتاً وإذا تكلم يقول أن أحلامه تبددت فيبكي حتى ينام، أحاول التخفيف عنه ولكن لا ينفعه شيئاً، والده لايعلم بما حدث لأنه هاجر إلى فرنسا بعقد عمل هناك فهو مهندس مدني، لم نخبره لأننا لانريد أن نحمله هماً جديداً، ومع بداية العام الدراسي الجديد حاولت أن أجد له معلماً يساعده في دراسته شريطة أن يأتي إلى منزلنا لكن الجميع رفضوا، واعتذروا بحجة أن عندهم ضغط مما زاد الطين بلة》

عندما سمعت قصته، قررت مساعدته في دراسته بلا مقابل، كنت أذهب إليه بعد إنتهاء دوامي في المدرسة، لازمته قرابة ثلاثة أشهر وجدت خلالها عقلاً نظيفاً وبصيرة متقدة وشاباً طموحاً لايهدأ، وفي أحد المرات قبل بداية إمتحانات الفصل الدراسي الأول، ذهبت كعادتي إلى منزله لنقوم بمراجعة بعض المواد، طرقت الباب فلم يفتح أحد، سألت طبيب الأسنان والبقال وأحد الجيران، الجميع قالوا أنه اختفى فجأة هو وأمه، كانت تلك الكلمات قاسية بالنسبة لي، اعتدت عليه ولم أكن أود مفارقته.

مر الزمان وانقضت عشر سنوات لأستيقظ هذا الصباح على إهتزاز هاتفي الخليوي،نظرت إلى الشاشة وإذ به رقم دولي

《بونجوغ مسيو...》وتابع بالفرنسية،للوهلة الأولى أردت إنهاء المكالمة، لكن شيئاً ما منعني

《ألم تتذكر صوتي يا استاذي العظيم؟

 أم لم تتوقع أن تصبح فرنسيتي ممتازة؟

لأنني كنت أكره تلك المادة في المدرسة》

《عيسى؟》

《نعم عيسى الأعمى،اسمع أعلم أنك ستتأخر عن المدرسة بسببي لكن سأحكي لك كل شيء الآن》

《لاعليك فأنا أتوق لسماعك》

《في الخامس من كانون الثاني،أخبرنا أبي أن نكون جاهزين الساعة العاشرة ليلاً سيرسل لنا سائقاً ليأخذنا إلى لبنان ومن هناك إلى ميناء مارسيليا على متن باخرة، أحد أصدقاء والدي القدامى سيتكفل بكل شيء حتى نصل إلى الميناء، لا أريد أن أتحدث عن تلك الرحلة الشاقة وعن العذاب النفسي الذي تعرضت له بسبب تهكم بعض الناس بنا، وصلنا واستقبلنا والدي الذي كان قد استأجر منزلاً في مارسيليا، قريباً إلى مكان عمله في شركة تعهدات للبناء، انصدم عندما رآني بهذه الحالة، وبعد عدة أيام ذهبنا إلى مشفى فيها طبيب إختصاصه جراحة مخ وأعصاب، ويصنف من أمهر الأطباء في فرنسا وأوروبا، أعاد لي الفحوصات وحدد موعداً للعملية، لا أعلم كم ساعة استغرقت العملية، كل الذي أعرفه أن معجزة حصلت واستطاع هذا الطبيب نزع الشظية وأعاد لي بصري، ولكن بوجود حول بسيط لايهم، الصدمة أن الطبيب الذي أجرى العملية من بلدنا، ماهذه الحرب اللعينة التي حلت بنا، بعدها عدت إلى دراستي ودخلت الجامعة ودرست الحقوق، وأنا اليوم المحامي الخاص للشركة التي يعمل فيها والدي، غير ذلك، ألفت رواية باللغة العربية وترجمت إلى الفرنسية، اشتركت بمسابقة أقامها دار نشر هنا للرواية الشابة، حصلت على المركز الأول، فضلك لم أنسه أبداً، سأدعوك لحضور حفل التكريم الذي سيقام بعد عشرة أيام من اليوم، سأوقع من خلاله على الطبعة الثانية من روايتي التي أسميتها '' من وحي المعاناة'' 

حيث أنت الشخصية الرئيسية فيها، كل التكاليف سأتكفل بها أنا،قد أرد لك بعض الدين، استاذي المخلص》

أنهينا المكالمة،شعرت بشعور غريب،فرنسا،وحلم السفر يتحقق، وعودة البصر لعيسى، ومستقبله المشرق، كل ذلك أشبه بالحلم. 

محمد وسوف 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنَّى لي بعِمَامةِ أبي

الحمل الوديع

أشواك للبيع