*** استراحة ***
الأديب/ عبدالرؤوف علي / يكتب
استراحة
ق.ص: استراحة قصيرة..
.............................................
بينما أتجول بين محلات سوق الخضار، إذ استرعى انتباهي ثمرات مستطيلة، موضوعة بداخل صندوق، أمام أحد المحلات..
خفق قلبي بقوة، واقتربت؛ لأتأكد من محتوي الصندوق؛ لأجدها بالفعل ثمرات من الخيار..
استقبلني بائع الخضر؛ ليسألني:
- أي خدمة؟
أرتج عليّ، وأجبت باقتضاب، أن:
- لا شكرا..
لاحقني بصوته الجهوري:
- جرب يا أستاذ، لن تخسر شيئا، فطعمه مثل العسل..
هنا آثرت الانصراف متمتما:
- أنا أصلا لا أحب الخيار، ولا أستسيغه..
بالفعل،، لم أبتع منه في أي مرة؛ لأجد طعمه جيدا..
حتى أنني لم أذق في حياتي كلها إلا ثمرة واحدة حلوة..
تهيجت أشجاني عند تلك النقطة، فقد اجتلبت ذكرى قديمة، منذ مقتبل الشباب..
وما أدراك ما مقتبل الشباب؟!
******
في ذلك الحي الشعبي الذي نشأت فيه، وبينما كنت في مرحلة من مراحل (المرمطة) الكبرى في مقتبل شبابي، كنت أعمل موزعا لمنتجات غذائية يفضلها الأطفال، والكبار- على حد سواء- من فئة الكيك والبسكويت... إلخ..
عمل مرهق جدا، يتطلب دفع (تروسيكل) من طراز قديم، عبارة عن: صندوق له ثلاث عجلات، تدار بقوة الأقدام مثل: الدراجة الهوائية..
وكنت بالفعل أقوده حتى أصل إلى منطقتي– التي فيها عملي– وأنا أركبه..
ولا ألبث أن أصل إلى منطقتي؛ فأترجل، ومن ثم أبدأ المشي..
فلا أترك شارعا، أو حارة، أو ممرا، إلا وأنقب فيه عن محل أبيعه المنتجات التي بحوزتي، مستغرقا في ذلك طوال النهار..
وفي ذلك اليوم الصعب، والجو شديد الحرارة، والهواء راكد، مكتوم، لزج، مفعم بالغبار، والعوادم، والأدخنة..
وبينما بلغ بي العطش مبلغه، وأثناء بحثي عن أي مصدر للماء؛ فلا أجد..
إذ خرجت من باب عمارة قريبة، طفلة صغيرة، تناديني ببراءة، بغية استيقافي:
- يا عم، يا عم..
انتبهت لها أخيرا– فقد كان تركيزي على غير مايرام من شدة الإعياء، والعطش– وما إن وقع نظري عليها حتى توقفت، وانتظرتها؛ لأجدها تقدم لي ثمرة خيار، وتقول:
- ماما تقول لك: ادع لأبيها- رحمه الله- هذه رحمة، ونور..
تبسمت رغما عني من وفرة البراءة في صوت الطفلة، وعذوبة منطقها المهشم، بطريقة الأطفال الساحرة..
تناولت منها ثمرة الخيار، شاكرا لها، ومحملا إياها شكرا مماثلا لأمها..
تبسمت لي بأسنان ناقصة، ثم ولت، وطفقت عائدة..
استغرقت بضع ثوان، حتى أفقت من شرودي، ونفضت عني مشاعر متضاربة، قد أسْرَتْ القشعريرة في أنحاء جسدي..
ثم أعدت دفع (التروسيكل) إلى ركن ظليل..
تبوأت حجرا جلست عليه، ثم قضمت قضمة من الخيارة– التي لا أحبها أبدا.. لكني مضطر– ؛ لأفاجأ بأعذب طعم يمكن أن تتذوقه في حياتك، بالإضافة إلى أنني قد ارتويت ريا لا مثيل له..
قضمت قضمة ثانية؛ لأجد أن طعمها يزداد حلاوة..
وهكذا...
قضمة، وراءها قضمة، حتى وجدت أنني أجهزت على الخيارة، وأجهزت الخيارة– بدورها– على نصبي، وصيدي..
فكرت: ترى ما سر تلك الثمرة التي لم أتذوق مثلها أبدا؟
هل هو عمل المتوفى؟ أم إخلاص ابنته التي تخرج الصدقة؟ أم براءة الطفلة؟ أم تعبي المبالغ فيه؟
بل ربما كل ذلك قد كان..
هنا رفعت كفي إلى السماء، يختلط في قلبي التعجب بالشفقة، يكسوهما الإخلاص، فقلت:
- اللهم ارحم أباها، وتجاوز عما تعلم..
ثم قمت من مكاني، بعد تلك الاستراحة القصيرة، وأكملت دفع (التروسيكل)...
تمت..
..................
أ.عبدالرؤوف علي
تعليقات
إرسال تعليق