*** وزن الريشة ***





الأديب/ أبوالقاسم محمود  / يكتب
 


 وزن الريشة

مساحة الزنزانة لا تتجاوز بضع مترات، عشرات الأجساد يلاصق بعضها بعضا كقطع الأسقمري المعلبة، أجساد متكدسة ومشوهة ، لا تكاد تفصل جسد هذا عن أعضاء ذاك !! رتب هذه الأجساد ليلا رئيس الغرفة على طريقة (تقالش) كما يسميها السجناء هنا ، يتقابل الشخصان جلوسا ، تلتصق المؤخرتان ، يضع كل منهما رجله اليمنى على الكتف الأيسر المقابل والرجل اليسرى على الكتف الأيمن، 

تختلط الملامح لتصنع هيئة كاريكاتورية متشابكة ، إنه منظر سجن داخل السجن..

ٱرتفعت معدلات الجريمة، ونتيجة لغياب عقوبات بديلة ضعفت الطاقة الإستيعابية للسجون ..

يغطى ثقب المرحاض بنعال النزلاء ، يفرش بما تيسر من بطانيات ليتم حشر ما تبقى من السجناء فوقها، كلما زاد العدد يتم وضعه من فوق والضغط عليه حتى يلاصق جزء منه الأرض..

يستفيقون على صوت الحارس وهو يقرع باب الزنزانة ،

-. النداء 

يقفون بصعوبة ، عيونهم شاخصة في سجان جديد يعدهم (واحد ،إثنين ...) ، قام بتبديل صاحبه هذا الصباح ، وليتأكد ، يقوم بعملية إحصاء كل غرفة تجنبا لهروب محتمل..

بجانبي شخصان ، بالكاد يقويان على الكلام يسأل أحدهما الآخر : هل قرأت الجريدة اليوم ؟

-لا ، جسدي تخشب ، لقد سار دبيبها مستساغا .

في زحمة الغرفة يجلسون القرفصاء ، شقهم العلوي عار ، يتفحصون بين جنبات ملابسهم عن قمل قض مضاجهم ، كلما عثر أحدهم على واحدة نفذ فيها حكم إعدام بين كماشة ظفريه ، 

طقطقات الموت، دماء ، بيض (سيبان) ينتظر دورة الحياة لتخرجه للعيش وسط دماء مستباحة..

يعلو الصراخ في البهو ، تخرج الغرف بشكل تراتبي لفسحة الشمس ، يهرول البعض لطابور سماعة الهاتف اليتيمة ،

نوبتي ٱقتربت ، أمامي بضعة أشخاص، خلفي رجل شاحب الوجه، يبدو غريبا، قادته أقداره هنا ، 

-من فضلك ، (عوزك تديني دورك ) أريد أن أكلم السفارة ..

- تفضل.

صوت السماعة مرتفع ، أسمع أنين أمه ، شكى لها متذمرا من وضعه قائلا بعد أن سألته ، كيف حالك؟ (مافي أكل ما في شرب ما في نوم )

شكرني ومضى دامعة عيناه، فكرت في مواساته، خفت من فقدان دوري فتراجعت..

ماذا دهاني حتى فعلت فعلتي تلك؟ ما كان علي سرقة تلك الدجاجة ، صحيح كانت لا صاحب لها ولم يسأل عنها أحدهم يوما ،لكنها ليست لي وما كان علي التصرف في شيء ليس ملكا لي ، 

رغبة أبنائي في قطعة لحم لم تترك لي مجالا للتفكير ، نعم فعلتها ولو أتيحت لي الفرصة ثانية وتحت نفس الظروف لكررتها ، لا يمكنني مقاومة الجوع في عيون صغاري...

قلتها هكذا للقاضي وهو يستفسرني ،

في نفس الجلسة ، بعد الإنتهاء من قضيتي كان النائب العام يرغد ويزبد في وجه المتهم بإصدار شيك دون رصيد، ظننت أنه سيعدمه ، تناول الكلمة محامي الشركة وبدأ :

(المتهم الماثل أمامكم قام بالنصب على شركتنا ، روج رصيده، جاءنا طالبا عشر سيارات لإعداد وكالة للكراء ، بعد دعمه سحب أمواله وباع السيارات وأعلن إفلاسه .. نلتمس أقسى العقوبات)

كنت متحمسا لسماع الحكم بعد المداولة في قضية صاحبنا  ، رفعت السماعة ، تساءلت :

- للأسف حكموا عليك بسنتين سجنا نافذة ..

-وصاحب الشيك ؟

-شهرا موقوف التنفيذ، سيخرج اليوم.

-كيف ؟ هل يعقل ذلك؟

نعم ، الحياة عبر ، وهذا درس يجب أن تتعلم منه ، لم يكن الدجاج يوما عملة، إرفع السقف.. طيط طيط 

نفذ رصيد تعبئتكم.


-أبوالقاسم محمود

21 دجنبر 2022

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنَّى لي بعِمَامةِ أبي

الحمل الوديع

أشواك للبيع