التحليق بلا أجنحــــة
قصة ~ التحليق بلا أجنحــــة
الكاتب ~ ابراهيم الغـراوي ~ يكتب...
~~~~~~~~~~~~~~~
التحليق بلا أجنحــــة
الأثر ليس قديماً. ثمة فتحة تتسع لشخص، تعلقتْ عند واجهة القبر . دنا بخطىً متثاقلة من تلك الملحودة الجاثمة منذ زمن فوق هذا المكان . أوحت عيناه المشدوقتان , بأنه يجتر ركام ذاكرة بائسة . ربما ٳستحضر حكايا القبور والعفاريت والجان . ٳبتلع فزعه على مضض وتمتم بصوت ضائله الخوف .
- من ثلم قبر أبي ؟
بفضول جبان ، وترقب حذر دس حميد , ابن الأثني عشرة سنة , جمجمته المتخمة بهواجس غريبة , تلصص عبر تلك النافذة السوداء في ظلام القبر . قبل أن يحرر رأسه من الطوق ، حطت على كتفيه كفان متخشبان لم يتركا له وقتاً لابتلاع ريقه .
- حميد لا تخف . أنا أبوك .. شكراً للزيارة .
منذ وقت وأنا أتوق لمجيء أحدكم .. ما لكم ؟ هل غبت عن ذاكرتكم ؟ أما تجدون بقلوبكم ما يشدكم لرؤيتي ؟ تستكثرون عليّ لقاء يبدد وحشتي ويسلخني عن مأساتي .
الأب الهيكل ، قطع لسان ثرثرته اللامجدية . حمل ولده بحنو . دلف به عبر البوابة . وضعه مفروشاً عند نهاية الغار . مسّدَ على شعره المبلل . قبّله ......
- ولدي لن أتأخر عليك . سأطلق لساقي عنان اللحاق بآخر سيارة تحملني حيث أنتم قبل انسحاب ذيول حمرة المغيب . آه لو تدري كم ٳشتياقي لكم ؟ لبساتين النخيل ، للحقول والأنهار , لنقاء هوائكم , لقطعان الأغنام التي كانت يوماً ما سبباً في قتلي . ..
خرج الهيكل . سد خلفه باب غرفته بأحكام هشة . دون جدوى طال وقوفه على قارعة الطريق . عن بعد تولي عنه السيارات مذعورة . لا يقل عنها ذعر كلاب سائبة كانت هناك .الكل منه فزعين ! كل ما في الأمر أنه لم يرتد جلده . أجّل رحلته ﻹشعار آخر . عاد بعد وقت ليس بالقصير . يلتمع خيبة وخجل . دخل زنزانته مكرهاً جلس منزوياً ومارس ثرثرته من جديد .
ـــ ستكون أنت سميري هذه الليلة . سأضمك لصدري أشممك أُبوّتي . أرجوك لا تتركني بمفردي .
دنا الهيكل من الجسد المسجّى . أخذه لحضنه . مسح على شعره المنقوع بالماء . حميد لم يع الأصوات التي حضرت المكان الاّ بعدما صحا من غيبوبته . فتح عينيه . وجد رجلاً يحتضنه بحيرة . آخرون يطالعونه بخواطر مكسورة من وقوف . قال الرجل قاطعاً استفهام العيون وهو ما زال يمسد بكفه الخشن شعر حميد المبلل .
ـــ الحمد لله عاد لوعيه ...... تفرقــوا فهو بخير .
تمتمت شفاه حميد باستغراب محشو بالخجل :
- من أنتم .... وأين أنا ؟ ,...و... ؟ !!
بادر الرجل لاحتواء الموقف بلباقة جوّالة القبور الذين يضجّون بادعيتهم رؤوس الموتى مقابل ثمن . قائلاً بتودد .
- أنا آسف بأشد ما يؤسف له يا بنيّ .. لم أكن قاصداً هذا . بل حسبتك ستلقي بنفسك في القبر فحاولت منعك..صــدقني ......
وهما في الطريق حكى حميد للرجل أيضــاً عن أغرب ما صادفه في موتته المؤقتة هذه . عن أرتال الدود وهي تحد أسنانها ابتهاجاً بمقدم لحم طازج جديد . وهما في الطريق ، شاهدا هنا وهناك عشرات القبور الهرمـــة المنخــــورة ........
***************
ابراهيم الغـراوي
تعليقات
إرسال تعليق