جرّبتُ أن أكون قلما

 قصة ~ جرّبتُ أن أكون قلما

الكاتبة ~ هالة مهدي ~ تكتب....

~~~~~~~~~~~~~~

جرّبتُ أن أكون قلما.

 وضعني الكاتب بين سبابته وإبهامه ثمّ بدأ يخطّ على الورق كل ما خطر بباله وما احتاجه عقله البشري، تارة قائمة مشتريات وتارة عقود وتارة إمضاءات وأخرى مجرّد خربشات بلا معنى... كلّما كان فرحا كان يكتب بخطّ جميل ويضغط عليّ برفق ولين فأمرّ على الورق مزهوّا منتشيا، وكلّما غضب أو حزن كان يمسكني بعنف وانفعال شديدين، وأحيانا كان يقضم غطائي بهيستيريا وجنون، كنت أتألّم بلا صوت، أصرخ بلا ضجيج، أسير على الورق كما اتفق فيمزّق الورقة تلو الورقة، ثمّ يرميني على الأرض كأنه ينتقم منّي، لم يكن لي ذنب سوى أني كنت صدى لأحاسيسه ومشاعره، فأنا لا أمرّ على الورق وحدي، كنت مقيّدا بإصبعيه لا حول لي ولا قوّة...

تتالت الأيام بين الصفاء والكدر وزادت ساعات الكدر وتفجّرت كلّ الخطوط على الورق إلى أن خرس صوتي نهائيا ذات يوم، أمسكني بين إصبعيه بانفعال شديد محاولا أن يخطّ على الورق فكرة خطرت بباله كان لا بدّ له من تدوينها قبل أن تضيع، صمدتُ وأعلنتُ التمرّد رغم الحبر الكامن فيّ، صار يشطب على الورق بهيستيريا محاولا الكتابة، لكن لا الحبر تدفّق منّي ولا الخطّ استقام على الورق، رمى بي على مكتبه بسرعة، كُسِرتُ، لكنّي أعلنتُ التحرّر من إصبعيه، تناول قلما آخر محاولا كتابة فكرته، سار القلم الجديد على الورق مزهوا محاولا إثارة غيرتي، لم يكن يعلم حينها أن سيكون في سجن تلك الأصابع وضحيّة أخرى من ضحاياه، وفي لحظة جنون وجد نفسه في سلّة المهملات، فقد تاهت الفكرة التي خطرت على ذهن الكاتب وحلّت محلّها أفكار أخرى ساذجة لم ترق له، لم يدم زهو القلم الجديد طويلا، فالعلاقة بين الكاتب والقلم لم تكن مجرّد حبر يمرّ على الورق، كانت علاقة عشق وهيام، تناولني مرّة ثانية محاولا أن يكتب بي، لكني حينها كنتُ قد كُسرتُ وما عاد الحبر يتدفق منّي، صار وجهه متجهّما، ندم على كسري أشدّ ما يكون النّدم، خبّأني في مقلمته رغم تأكّده من عدم جدوى الاحتفاظ بي، لكنه لم يقوَ على التخلّص منّي ولا على نسياني، فقد كنت رفيقه لسنوات طويلة وشهدتُ معه كلّ رحلاته شرقا وغربا، صار كلّما حنّ لرؤية حبري على الورق يقلّب أوراقه القديمة علّه يستردّ بعض عافيته. أمّا أنا فقد داويتُ كسري بنفسي واشتدّ عودي وتدفّق الحبر منّي من جديد لكنّه كان حبرا سريّا خفيّا عمّن كسرني.

هالة مهدي