إطار مكسور



 قصة ~ إطار مكسور 

الكاتبة ~ حميدة الساهلي ~ تكتب...

~~~~~~~~~~~~~~~

إطار مكسور 

 

الأيام القليلة المتبقيّة من عمره بترت محاولتي في معرفة حقيقة ما يدور حولي، ونسج حول شفاهي خيوط الصّمت،  

ضممته إلى صدري، داعبت شعره الرّمادي، مازحته في خبث:

"مالذي دهاك حتّى فتحت قلبك لتلك الفتاة يا عجوزي، أين كان عقلك حين تزوّجتها وهي بعمر بناتك " 


رفع  رأسه نحوي، تحسّس تضاريس وجهي بأنامله المرتعشة وأردف قائلا بصوت خافت،

"كانت الحاسّة السّادسة تصرخ في داخلي وتخبرني أن كلمة بابا ستكون أعذب ما تسمع حين تتزوّجها،  وتنجب لك ملاكا، فامتثلت لرغبتها" 

قلت في امتعاض كعادتي 

"إنك تراوغ مجدّدا يا أبي"

ابتعد قليلا، مدّد جسده الهزيل على السّرير وضعت الوسادة برفق تحت رأسه. وتركته لنومه المزيّف. 


سألته ذات يوم: "لقد بلغت من الكبر عتيّا، هل ستموت وتتركني بلا أب"

أتذكّر حينها أنّه استحال عليه الرّد واكتفى بضمّي إلى صدره بذراعيه الواهنتين. كم كنت قاسية حين زدت على سؤالي بعض الوقاحة،" ليس من الطّبيعي أن تكون هرما هكذا يأبي، ربما أنت بمثابة جدٍّ لي ، فكل الآباء الذين يأتون لزيارة بناتهم في المهجع، لم يتجاوزوا الخمسين وبعضهم في الأربعين،

وكعادته لا يجيب عن أسئلتي... 


نظراته الحزينة وهو في رمقه الأخير، كسهم سريع الانطلاق، استقرّ في أيسر صدري مزّق نياط قلبي، وكأنّي أمتطي ناعورة هواء تلاعبت بها رياح مجنونة يوم شتاء عاصف. 

قالت أمّي بحزن بليغ: "رحل عجوزك، وبقيت كلمة بابا يتيمة بلا مأوى، لولاه لما كان لدينا أب." 


لم يفلح حبّي له في كبح جماح رغبتي في معرفة الحقيقة، عربد في عقلي شكّ لئيم،  بين شفتيّ تململ سؤال قد نشبت أشواكه في حنجرتي كلّما هممت بالإفراج عنه من براثن صمتي وقضبان خوفي، تغتالني الحقيقة الطّافية على سطح واقعي، أتساءل. هل أكتفي بهذا القدر، أم أنتهي إلى قعرها الذي يروادني على الارتطام؟ أدرك أنها معركة خاسرة في كلتا الحالتين، والهزيمة تتربص بي منذ بدء شكوكي.


وضعت الأوراق والصّور جانبا واستلقيت على السّرير رافعة بصري نحو السّقف، أبحث في زوايا ذاكرتي عن فجوة صغيرة تخرجني من متاهتي، لا شيء، سوى ملامح مبهمة  من مشهد تقوم فيه أمّي بدور البطولة ، تحاشيت كثيرا النّظر في عينيها مخافة أن أدلي بظنوني على كاهلها المنهك، فيسقط كبرياؤها  كعنق غزال مرخيّ بين فكّي نمر جسور.

  استجمعت جرأتي ودنوت منها ليلة العزاء الأخيرة، أستفزّ صبرها علّها تفجّر في وجهي ما تخفيه عنّي، سألتها عن التواريخ غير المرتّبة في أوراق الهويّة، لماذا  تاريخ الزّواج متأخّرا عن ميلادي؟ . 

ردّت ببرود: "لأنّنا لم نسجّل عقد القران في إبّانه"

كانت مدركة لما أسعى إليه بتلك الاستجوابات المتكرّرة،  ماهرة في الافلات من قبضتي،  لم يفسد ذلك علاقتنا، ولم تتذمّر هي من مضايقتي لها...


أطبقت ذراعيّ على صورته أحضنها، قبّلت جبينه وخاطبته بنبرة حنان، "كيف لك أن تصمت وتراقب احتراقي، لم أعهدك بهذه القسوة يا عجوزي"


 شعرت بخطواتها المترددة من وراء الباب، ثم جاء صوتها وقد احتشدت في نبرته عقد التّأتأة، مبعثرا، مرتعشا، كمن وقف بين يدي قاضي محكمة.. 


_"لم أتجاوز التّاسعة عشر عندما تزوّجته، ولم تبلغي الثانية من عمرك ، بعد أن تقاذفتنا الأرصفة الباردة، ولطمتنا قسوة الحياة، وبتنا  في العراء مشرّدتين، أتى هو ليطوي بوثيقة الزواج خطيئتي، تجاوز هو الستين من عمره، واحتاج إلى الأنس والرعاية، واحتجت لسور أخفي وراءه ضعفي، احتجت دهرا من الاختباء والنسيان، احترف هو إسدال السّتائر على نوافذ كبريائي العاري وأتقنت أنا ردّ الجميل". 

انتفضت من مكاني واشرأبّت مشاعري مستنفرة، وسألتها بصوت متلهّف:

" أخبريني إذا، من هو أبي؟"


حميدة الساهلي

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنَّى لي بعِمَامةِ أبي

الحمل الوديع

أشواك للبيع