في السفارة الأمريكية
قصة ~ في السفارة الأمريكية
الكاتب ~ د . إبراهيم مصري النهر ~يكتب...
~~~~~~~~~~~~~~~~~
في السفارة الأمريكية
لاحت لي ألواح الطاقة الشمسية تلمع على سطح بناية فاخرة من طابقين -حتى الشمس يعتصرونها ولا تفلت من استغلالهم، يالجبروتهم- !
دخلت في ممر جانبي ملغم بكاميرات المراقبة، أدّى بي إلى بوابة كبيرة عند إحدى جانبيها باب حديدي صغير يمر منه المشاة من الزوار، بعد أن يستوقفهم ليطلع على بطاقة هويتهم ويعرف سبب الزيارة أحد رجلي الأمن المدججين بالسلاح.
مررت ببوابة التأمين الإلكترونية بعد الاطلاع على بطاقة هويتي والسماح لي.
في الاستقبال، بدا لي وجهها من خلف زجاج الكاونتر؛ اقتربت أكثر، تفرست ملامحها، وسألتها عن إمكانية السفر إلى تلك البلاد؟
أصابها الارتباك للوهلة الأولى عندما التقت عيناها بعيناي، ولم تلبث أن تماسكت وأخفت ما أصابها، وأجابت بتحكم فائق في لغة الجسد، وجدية وانضباط للكلمات كانضباط ساعة سويسرية لم أعهدها عليها من قبل، قائلة: يمكنك يا أفندم، بعد استيفاء الشروط المطلوبة.
مددت إليها مسوغاتي للسفر من فتحة صغيرة أسفل الزجاج؛
أخذت الملف وطلبت مني أن أجلس لانتظار دوري.
جلست على كرسي وثير وعلى جانبي حوض ورد بلدي يفوح منه الأريج، وشعاع الشمس يخترق زجاج النافذة خلسة ويلثم خد الوردات الخجلى، وشاشة عرض كبيرة تعرض أفلاما تسجيلية عن حضارة بلاد ما وراء المحيط، وجاءني النادل بزيه المميز الأنيق وبابتسامة هادئة قدم لي قائمة المشروبات لأختار مشروبي المفضل في صمت.
احتسيت قهوتي وأنا أحدج صوبها، وهي أيضا تختلس النظر بين الفينة والأخرى لتنظر إليَّ وهي تتصفح الملف...
أعرفها جيدا منذ أيام الجامعة، هي مي التي كنت أحبها وأظنها هي أيضا كانت كذلك، وتقدمت لخطبتها ولكنها رفضت رفضا دبلوماسيا غير جارح، استمدته من طبيعة دراستها بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية.
لا تنتمي إلى عالم الجميلات، لكنها تمتلك جاذبية تجعلها مطمعا، وتفوقا دراسيا وضعها في قائمة أوائل الدفعة.
ظللت أتأملها طويلا كرسام يفكر في وضع اللمسات الأخيرة. وخلفها موظف آخر منكمش خلف مكتبه، منهمك في عمله، ثم فجأة نظر إليها ونادى عليها قائلا: أستاذة مي، أستاذة مي...، وأكمل بعد أن نظرت إليه: تعالي لو سمحتِ.
ذهبت إليه، وأخذا ينظران معا في شاشة جهاز الكمبيوتر الذي أمامه ويتناقشان.
إذن هي مي زميلة الجامعة؛ من الصعب أن يكون التشابه تشابهًا في الشكل والاسم معا !
وهذا ما يبرر ارتباكها عندما رأتني، لو لم تكن تعرفني لما ارتبكت هكذا. وبينما أنا لم أفتأ أفكر...
رجعت إلى مكتبها ونادت على اسمي بثغر مبتسم، كاشفة عن أسنان نضيدة شديدة البياض؛ لملمت حاجياتي بسرعة وتوجهت نحوها...
بادرتني بابتسامتها الحالمة قائلة: أستاذ أحمد سامي دفعتي !
أجبتها: إذن أنت أستاذة مي سمير !
أومأت برأسها إلى الأمام وهي تقول بخفة ظلها المعهودة: نعم، نعم، أنا هي بلحمها وشحمها.
-لقد تغيرتِ كثيرا لدرجة أنني لم أجزم أنكِ مي.
وأصابعها الخاوية من أي دلالات دفعتني لسؤالها عن حالتها الاجتماعية قائلا: أ ما زلتِ عزباء؟
أجابتني بعد أن اختفت ابتسامتها تاركة وجهًا عبوسا قائلة: جربت وفشلت، الزواج طوق خانق، والحب وهم كاسر، والنفس البشرية غير متزنة، والاستقرار صعب المنال ومحال، فلا يبقى للمرأة غير عملها ومالها.
قاطعتها بصوت مغلف بالشفقة: ولكن.
لكنها لم تعطني الفرصة وغامت عيناها وأكملت: قبل أن ألتحق بالعمل هنا، كنت أعيش في شقة لا تتعدى حوض السباحة في ڤلتي الآن، وضنك المعيشة، وصعوبة المواصلات، كل هذه المنغصات أحدثت شرخا في جدار الأسرة، جعل نظامها يتخلخل واستقرارها ينزلق من على رفوف المودة والرحمة، ودفعت بها إلى ما لا يحمد عقباه، كان هذا التأزم الدائم كفيلا لنشوب عراك تخطى حدود الأيدي بيني وبين زوجي وانتهى بنا إلى الطلاق.
ثم انتبهت وقالت: معذرة يا أحمد، لقد صدعت رأسك بمشاكلي، دعنا نعود إلى ما يخص موضوعك، الذي جئت إلى السفارة من أجله. وقطبت ما بين حاجبيها ممتعضة، وأكملت: يا صديقي، أمثالك لا يصلحون للعيش في مثل تلك البلاد، فهم يبحثون عن أناس بلا هوية، أو على الأقل أناس بمواصفات خاصة، هم لا يبحثون عن الأوائل بقدر ما يبحثون عن أناس لديهم القدرة على الذوبان والتماهي تماما في مجتمعاتهم المختلة أخلاقيا، يريدون من يقع في الفخ، فخ التنازل مقابل المال، فأنا مثلا وقعت في فخهم، ولو فكرت في الزواج أو الرجوع إلى مي الأولى الآن لأُجبرت على الرحيل غير مأسوف عليَّ، إنه الاستعباد بالرفاهيات !
ونظرت إليَّ بعينين تبكيان بلا دموع، ونفس تصرخ بلا صوت.
وفي مثل هذه اللحظات يتوقف الزمان، ويصير الصمت أبلغ من الكلام.
وكان الانسحاب أفضل الاختيارات لكلينا؛ فودعتها وكلمة الفراق تطل من العيون ولم تقو على النطق بها الشفاه، وفكرة السفر قد طلقتها ثلاثا.
واستدرت للخروج؛ منعوني بحجة أن سعادة السفير يريد مقابلتي !
د. إبراهيم مصري النهر
تعليقات
إرسال تعليق