أريج الماضي



 قصة ~ أريج الماضي 

الكاتبة ~ لوقاف جميلة ~ تكتب...

~~~~~~~~~~~~~~~

أريج الماضي 


كم أحن إلى تلك الأيام و  إلى عبق لحظاتها الرائعة، وقد كنت أزور جدتي التي تقطن في بيت ريفي صغير يغطيه قطع من القرميد الأحمر الآجوري،

يقف بشموخٍ وسط رابية هادئة متوجة بأشجار من السرو والصنوبر الباشقة، يمتد أمامه بستان من الورود والأزهار الجميلة تكاد تلمس وجه الأفق ويلفح أريجها أنوف الزائرين لذلك المكان الساحر ، 

 الذي ينسيك ضجيج المدينة ودخان سياراتها و يتخم رؤوسنا المكتظة بالأفكار،

كم أحن إلى أن أنهض صباحا على صياح الديكة و أسابق شروق الشمس لأرى شُعاعها ، وهي تنسلخ من جسد الأفق البعيد مرسلةً خيوطا دافئة  من الأشعة الذهبية ترتسم على جبيني وترسم قبلة عليه ،  تداعب شعري لتزيده اصفرارا كلون السنابل التي تميل مع كل رقصة ريح تهب عليها ولا تنحني، ترافقها في السماء تلك السحابات البيضاء كأنه محفل من الفتيات اللاتي تخدمن الأميرة  . 

أتوق إلى رائحة الكسرة الساخنة التي تعدها جدتي فوق بقايا التبن وأفنان الأشجار اليابسة المشتعلة ،

لونها مختلف رائحتها وطعمها لا يشبه خبز المدينة،   تلك اللحظات التي أشعر فيها بأن جدتي تملك زمام الأمور وتتربع على عرش مملكتها الآمرة  الناهية لكل شيء، تملك وحدها مفاتيح تلك المملكة٠

أشتهي  ذلك الخوف الذي كان يتملكني حين تودعني الشمس لتعانق الأفق عائدة إلى حضنه كأنها لا تطيق فراقه ، وتعود المواشي إلى مكانها بعد يوم شاق مساقة بوحيٍ من الله ، وقتها يعم الهدوء ولا تسمع إلا نقيق الضفادع وخريرا بعيدا لمياه الوادي، ونعيق بومة تسكن في بيت مهجور وسط الغابة  المخيفة  ، يرتجف جسدي و يراودني ذلك  الخوف الممزوج برائحة الكلأ المبلل بندى الفجر،  حينها تقوم جدتي بغلق أبواب مملكتها لكي لا يتسلل إليها من بين أكوام الهيشر والقش المتراصة  فوق بعضها البعض (آرلو) هذا الشبح الأسود المحترق الذي ذكرته  الأسطورة بأنه كان حارس هذه القرية وقد قام بخيانته  ابن عم له وقت الاستعمار وتسبب بحرقه أمام الملأ،

 لقد كان دائما يخرج ليلا  ليبحث عن أي خائن يتسلل للقرية بعد المغرب ليقتله انتقامًا له .

وكم كنا نجتمع حول المدفأة نطوي الساعات ونحن نستمع لحكايات جدتي التي لا تنتهي، فتطيل ليلنا  نحاول أن نبعد النعاس من عيوننا نجافيه لنمسح لمسته من جفوننا بأيدينا الصغيرة كي لا ننام ، ونكمل سماع باقي الحكايا عن العنزة والذئب، أو عن أمنا  الغولة وغيرها .

 أحيانا كانت تسهو أثناء حديثها حتى نقول أنها نامت، بعدها تهدهد أخي الصغير في حجرها وهي تدندن أغنيتها المحبوبة " طيارة الصفراء حبسي ما تضربيش ..حبسي ماتضربيش ..عندي راس خوي .. ولميمة ما تضنيش .....إلخ  " كانت نبرة صوتها تتغير مع كل تنهيدة تخرجها وكل كلمة ترددها، لم نكن ندرك كل المعاني وقتها حتى كبرنا ،

ولم نفهم سر الدموع التي كانت تجعل عيون جدتي تلمع كلؤلؤ بلوري أمام وهج النار التي تحرك جمرها بعود الزيتون القاسي والذي لها فيه مآرب أخرى،

 كانت تُكمل سرد حكايتها وتقول لنا : عليكم أن تكونوا كهذا العود رغم طراوته إلا أنه صلب لا ينكسر.. 

 مرت أعمارنا سريعًا ولم نعد أطفالًا ، كبرنا ونما حبنا للمة والألفة واشتقنا النوم مع بعضنا ونحن نشتم عبق أنفاسنا وأجسادنا لا نكره  أحدا ، كم كنا نخاف على بعض رغم شجاراتنا،

 رحلت جدتي ملكة  الزمن الجميل وتركتنا في زمن غابت فيه براءة الطفولة و اختفت خلف قضبان الحقد والغيرة وحب الذات، رغم ذلك

مازال شعورنا باقٍ حيث يكمن فينا ذلك الطفل البريء المشاكس ويتمرد على واقعنا ولا يجد مثيله في هذا الزمان ، فطفل اليوم لم تعد تجدي معه ألعاب الغميضة ولا ألعاب الأم الحنون والضيوف الزائرين وقهوه المساء ،لم تعد تغريهم الألعاب التي نصنعها من مخلفات الأشياء غير اللازمة للاستعمال .

فقد تغيرت الألعاب بألعاب القتل والرصاص،  وتكنلوجيا الهواتف التي أنستنا طفولتنا البريئة،  كل شيء أصبح عدوانيًا  عنيفًا، 

الحربُ وضعت أوزارها في كل مكان، دمرت كل الأشياء الجميلة .


بعد كل هذه السنوات أدركت أن (آرلو) ليس أسطورة بل حقيقة علينا أن نصدقها وأن ابن العم الخائن استوطن وعثا في الأرض فتجبر وحرق كل شيء حتى أحلامنا، أصبحت الآن أعي معنى أغنية جدتي التي طالما رددتها على مسامعنا:  (طيارة صفراء حبسي ماتضربيش)

هي مواجع الحرب وأزيز الطائرات وخوفها على إخوتها وأهلها .


لوقاف جميلة 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنَّى لي بعِمَامةِ أبي

الحمل الوديع

أشواك للبيع