اختناق
قصة ~ اختناق
الكاتب ~ د . إبراهيم مصري النهر ~يكتب..
~~~~~~~~~~~~~~~~~~
اختناق
عاد الطبيب إلى كرسيه خلف مكتبه، بينما أنا ما زلت ملقاة على سرير الكشف، بعدما سمع صدري بسماعته أثناء شهيقي العميق والزفير، وهو ينظر إليّ بوجه مرتبك من تحت نظارته ذات العدسات الواسعة والإطار الأسود السميك، وأسند ظهره إلى خلفية الكرسي وهو يهمهم همهمة لم أفهم منها إلا قولة: شيء غريب !
أزعجني تعليقه المستفز فأجبته بضجر: أعرف أنه غريب يا دكتور، لم آتِ إليك لتخبرني بذلك ! إنما جئت إليك لتعالجني، أو تقول لي سببا معقولا لما يحدث معي !
وأنا أحاول السيطرة على انفعالي أكملت: أنا لا أعرف ما الذي يحدث معي يا دكتور ! أنت من يجب عليه تفسير ذلك، ولهذا أتيت إليك.
مع أنه طبيب مشهور وحاصل على أرفع درجة علمية وكبير في السن ويتمتع بخبرة عملية في تخصصه. بحثت على الإنترنت عن أفضل أطباء الصدر في البلد ولم أجد أحدا يذمه، بل الكل يثني عليه ويمدحه على مهارته في تشخيص المرض وعلاجه. لكن لامبالاته أصابتني بالشك، فلم أجد لديه بوادر مطمئنة وخشيت أن يلعب معي لعبة الأطباء عديمي الضمير، الذين يستغلون مخاوف المرضى فيحيلونهم للتحاليل والأشعة باهظة الثمن.
لكنه رد على تساؤلاتي بدون اكتراث قائلا: كل شيء في داخل الصدر جيد، ولا يوجد ما يبرر شكواكِ، كما أن أشعة إكس لا تحمل شيئا غريبا أو غير معتاد، وفحوصات الدم لا تشير إلى وجود التهابات. وصمت قليلا لا أدري فيما يفكر، وخيم الوجوم على كلينا للحظات، ثم باغتني سائلا: هل يمكنك أن تصفِ لي حالتك من جديد؟
مع أني كنت قد وصفتها له بدقة قبل أن أستلقي على سرير الكشف، ولكن ذلك لم يمنعه من تكرار سؤاله الذي أصابني بالقلق.
وحينما لم أجد مفرا من تكرار الشكوى قلت بنزق: لا بأس، لا بأس. وبدأت أسرد شكواي مرة أخرى، بينما هو يلهو في جواله وأسمع صوت تفاعلاته مع المنشورات، ويقول على فترات: أسمعك، أسمعك. وعندما قلت: أشعر بالاختناق. انتبه إليَّ من خلف شاشة جواله، وسألني: متى، متى تشعرين بذلك يا مدام؟
أشعرني سؤاله أنه لم يكن مركزا معي أثناء بثي لشكواي في المرة الأولى فلذت بالصمت، وعندما لم أجد بدا من إجابته، أجبته: أشعر بذلك عندما تقع عيناي على زوجي طريح الفراش بعد إصابته بمرض نادر يطلق عليه الأطباء مختصر (ALS) منذ ثلاث سنوات، عندما يطلب مني أولادي زي المدرسة ومصاريف الدراسة ولا أجد، عندما يتعب أحدهم ولا أستطيع شراء الدواء له، عند حاجتي لدفع فواتير الكهرباء والماء التي تضاعفت، عندما أذهب إلى السوق لشراء الطعام والشراب في ظل هذا الغلاء الفاحش وأرجع كما ذهبت، ذهبت أمس لشراء كيلو بصل وجدته بثلاثين جنيها ! تخيل يا دكتور، كيلو البصل بثلاثين جنيها ! وكيف نأكل بدون البصل؟! عندما ...
لكنه كان قد استكمل تفاعلاته مع المنشورات، وقال في تبلد مقاطعا إياي: كفى، كفى.
توجست خيفة وسألته وأنا في ذروة القلق: هل سأصاب بالذبحة الصدرية يا دكتور؟
أهمل سؤالي، وهرب بعينيه بعيدا عن وجهي كأنما يخفي حيرته، ثم حدث ما كنت أخشاه، عندما أخذ ورقة من وراقة أمامه، وكتب عليها شيئا، ومدها ناحيتي وقال: لابد من عمل أشعة مقطعية على الصدر وأشعة إكو على القلب..
ثم راح يلهو في جواله !
د. إبراهيم مصري النهر
أخصائي الأمراض الصدرية
مستشفى الصدر بدمنهور
تعليقات
إرسال تعليق