امتحان الدم



 قصة ~ امتحان الدم 

الكاتب ~ ابو القاسم محمود ~ يكتب...

~~~~~~~~~~~~~~~~

امتحان الدم


وجدتني أنتزع المعطف من على ظهر المانيكان، تلمست ثوبه، يتقاذفني شعور بالرضا وآخر بالغيرة!

البرد يتجول بين جسدي وثيابي الصيفية مخلفا قشعريرة تبدت كحبيبات صغيرة طفت فوق مسامي ..

أحسست بالدفء وأنا أداعبه..

في غمرة نشوتي سمعت طقطقة حذاء شخص يعدو فلم أهتم خوفا من إهدار لحظة رائعة، فتحت أزراره الأمامية لأقيسه على كتفي، امتدت يدان بلا رحمة لتقتحم سعادتي، واحدة انتزعت مني الحلم والأخرى دفعتني بشدة على الرصيف..

خدش في وجهي ينزف، كلي جروح بماذا يضر هذا الجرح؟! 

المارة يعبرون بجانبي دون أن يهتموا، فكرت لوهلة في رد مظلمتي بأكثر منها لكن صوتا كان في داخلي ظل يمنعني..

امتدت لوجنتي يد خشنة مسحت دمي المنساب، ربت على كتفي ومضى مرددا " ما بقات خاوة " !

كنت أنوي زيارة والدي في قبره، خشيت أن يراني أرتجف أنا الذي وعدته بأن أبقى وفيا لرباطة جأشه، تعودت زيارته كل أسبوع كما أوصاني ذات مرة، كان المكان متنفسي الوحيد، أقصده كلما أحسست بالضيق، أحكي له لواعجي فأتخيله ينصت !

صحيح أني لم أحضر لحظة موته بسبب مهمة أرسلني إليها، لكني اهتديت لرمسه عبر شاهد القبر ..

في كل مرة أجد عند القبر تحت حجرة صغيرة  مبلغا ماليا ..

كلما تذكرت والدتي استحالت عيني شلالا وتمنيت أن أهتدي لذلك التراب الذي احتضن جسدها، وافاها الوباء الذي حل بقريتنا فواروها الثرى في مقابر جماعية ولم يسمح لنا بالحضور أو معرفة المكان، دعواتي أبعثها لها كل يوم ومن المؤكد أنها تصلها فالدعوات لا تتعثر وليس لها جوازات سفر..

في الوقت الذي طردني صاحب البيت من المنزل الذي اكتراه أبي فتح الجيران أبوابهم لاحتضاني، لكني لم أعد أطيق رؤية ذلك البيت، جدرانه تذكرني بدفء لم يعد متاحا وبوابته بدت لي أن كل من يدخلها يترصده الموت المفاجئ ..

كان والدي دائما ما يحدثني عن الموت، يحسب له الحساب، يسائلنا دوما، هل ستذكروني حين أفارقكم ؟

تنقبض ألسننا لمجرد سماع هذا السؤال، كان كثير الغياب لدرجة أن جل صراعاته مع أمي بسبب السفر، حتى أنها كانت تتهمه بالزواج من امرأة أخرى..

تأخرت اليوم عن موعد الزيارة، وحتى لا تنكشف جروحي فيتألم قررت أن أشتري لثاما التحفته ومضيت، حين وصلت رأيت رجلا  تشبه ملامحه ذلك الشخص الذي أسعفني قبل قليل، انسان بسيط، أشعث كث اللحية محلوق الشارب، خمنت أنه حارس لم أنتبه لوجوده في سالف الزيارات..

قمت بالذي أتيت من أجله، وضعت المبلغ في جيب سترتي، لم تفارق مخيلتي صورة ذلك الشاب الذي دفعني، الشعور بالاحتقار دفعني لتخمينات شتى اخترت أيسرها، 

سأشتري ذلك المعطف، رغم أنه مستعمل لكني أرى في امتلاكه جزءا من كرامتي المهدورة..

وقفت بالمحل أمام غايتي، وفجأة أسرع ذلك الشاب نحوي..

- عدت ثانية ! ماذا تريد ؟

- كم سعر هذا ؟ أردت لمسه فمنعني عبر القبض على معصمي.

- أجاهل أنت ؟ ألا تقرأ  العبارة المكتوبة ( ليس للبيع) ؟

- لم أنتبه ..

- هذا معطف والدي رحمه الله، ما يؤلمني هو أني لم أشهد موته، كنت خارج الوطن في مهمة تجارية، وخوفا على رد فعلي لم يخبرني أحد من الأقارب الذين يدركون تعلقي الشديد به..

- أعتذر منك لجهلي..

- لا عليك، سامحني لم أكن لطيفا معك..

لم أشأ أن أعقب وقد غلبتني دموعي، عذرته دون تفكير وأنا أعيد شريط الذكريات ..

في اليوم الموالي عدت للمقبرة، قمت بطقوسي المعتادة، لم يكن تحت الحجرة سوى ورقة بيضاء، فتحتها على عجل:

اذهب إلى أخيك، أريد أن أراك في معطفي، فأنت الأولى به!

بين الحياة والموت شعرة، وأنا حي أرزق، بشر أخاك الأكبر .. اختبرت فيكما الجانب الإنساني، ذلك المبلغ الذي كنت تعثر عليه رزقك وهو مال أبيك ساقه الله إليك على يد أخوك الذي كان يزورني ليلا، لم أشعر بالوحدة يوما..

سامحني، كنت أمام خيارين إما أن أضيق الدنيا عليك أو على أخيك فاخترتك، وقد كنت صبورا كريما رحيما، وكنت أكبر حتى من المسؤولية التي ألقيتها عليك رغم صغر سنك! تأكدت اليوم أن أحاسيس الوالد لا تخطئ.. رحم الله أمهاتكما اللتان كانتا تشعرانني بالحياة، أنا ميت مذ رحلتا لكني اخترت البقاء من أجلكما ..

نفذ ماقلت لك.. 

تبللت الورقة بين يدي وأنا أتهجى حروفها، أحدق في وجه الحارس، وأتذكر عبارته " ما بقات خاوة " ..

بدى الرجل نادما وهو يردد على مسامعي مخففا من صدمتي: لقد كان قلبي ينفطر لدى رؤيتك، كم مرة قررت أن أبوح بالسر فيثنيني العهد الذي قطعته. 

ابو القاسم محمود 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنَّى لي بعِمَامةِ أبي

الحمل الوديع

أشواك للبيع