ماريسا



 قصة ~ ماريسا 

الكاتب ~ أحمد إبراهيم ~ يكتب ...

~~~~~~~~~~~~~~~

( ماريسا )


كانت السماء صافية والهواء منعشًا، وأمواج البحر تتلاطم بلطف، والشمس تستعد للغروب، ليحل محلها القمر، عندما كان روبرتو، وهو كاتب يبلغ من العمر خمسة وأربعين عامًا، يسير على طول الشاطئ، متأملا جمال البحر ومنظر غروب الشمس الساحر. رحلته إلى هذه المدينة الساحلية الخلابة أعطته الأمل استعادة قدرته على الكتابة والإبداع، التي فقدها خلال العامين الماضيين، بعد تحقيقه الكثير من النجاحات، التي جعلت منه واحدًا من أشهر الكتاب في إسبانيا، مما دفعه إلى زيارة أحد الأطباء النفسيين، الذي نصحه بالسفر إلى مكان هادئ لاستعادة قدرته على الكتابة والإبداع مرة أخرى.

بينما كان روبرتو يسير مستمتعًا بالأجواء الساحرة من حوله، سمع فجأة صوت بكاء عالي، وعندما استدار ليرى مصدر الصوت، وجد فتاة صغيرة تجلس بمفردها. كانت تبلغ من العمر تسع سنوات، وكان شعرها الأشقر المجعد يغطي جزءًا من وجهها المتعب، الذي يظهر معاناتها وألمها، تحمل في يدها دفترًا مزخرفًا بالورود، وقلمًا أزرقًا. 

كانت الدموع تنهمر من عينيها ذات اللون البني. لم يستطع روبرتو تجاهل هذا المشهد المؤثر، حيث شعر بتعاطف عميق مع الفتاة، وأصبح لديه فضول لمعرفة سبب بكائها. اقترب منها بهدوء، ثم جلس بجانبها، وسألها بصوت هادئ: من أنت؟، لماذا تبكين؟. 

نظرت إليه الفتاة بعينين حزينتين مليئتين بالدموع، ثم أجابت بصوت حزين مرتجف: أنا ماريسا. لقد كان لي والدان يحبونني، ويعتنيان بي، يضحكان ويلعبان معي، لكن الموت سلبهما مني في حادث سير قبل عام. لقد تركاني وحيدة في هذا العالم، ولم يكن لدي أحد سوى عمي خوان، الذي وعدني بأنه سيعتني بي، ويعاملني بلطف، ثم أتى بي هذه المدينة لأعيش معه، لكنني سرعان ما أدركت أنه كان يكذب عليّ، فلم يعتن بي، ولم يعاملني بلطف كما وعدني، بل عاملني بعنف شديد، وأساء إليّ، وضربني كثيرًا، بسبب إدمانه على شرب الخمر، لذا قررت الهرب من منزله والقدوم إلى هنا. شعر روبرتو بالحزن والأسف على حالة الفتاة، وقرر مساعدتها، ثم اصطحبها معه إلى مطعم لتناول الطعام بعد أن أخبرته أنها جائعة، ثم إلى شقته، لتقضي الليلة عنده حتى صباح اليوم التالي. في المساء، قبل الذهاب إلى الفراش، أخبرته عن حبها للرسم وحلمها في أن تصبح رسامة مشهورة، وكان دفترها المزخرف به مجموعة من رسوماتها المدهشة التي تظهر موهبتها، كما شاركته أيضا تفاصيل أخرى عن حياتها، خاصة بعد وفاة والديها وانتقالها للعيش مع عمها.

ما مرت به ماريسا كان له تأثير شديد على روبرتو، مما جعله أكثر تصميمًا على مساعدتها على عيش حياة أفضل، بعيدًا عن عمها قاسي القلب، حتى تحقق حلمها، الذي ذكره بحلمه عندما كان طالبا في المدرسة الابتدائية بأن يصبح كاتبًا مشهورًا، وقد نجح فعلًا في تحقيق ذلك، على الرغم من التحديات التي واجهها، خاصة فشل روايته الأولى “المدينة المفقودة”، التي كان يأمل أن تنال إعجاب القراء والنقاد، مما جعله يشعر بالحزن والإحباط، لكنه تمكن من تخطي ما حدث، بفضل دعم عائلته وأصدقائه، الذين شجعوه على مواصلة الكتابة وعدم الاستسلام أبدًا. 

في صباح اليوم التالي، أمسك روبرتو بيد ماريسا بحنان وذهب بها إلى مركز الشرطة، للإبلاغ عن عمها.

كان وجه ماريسا يظهر الخوف والألم الذي تشعر به، بينما كان روبرتو مصممًا على المضي قدمًا حتى يتم القبض على عمها وسجنه، لما فعله بحقها.وصلا إلى مقر الشرطة، وهناك كانت أعين الضباط تراقبهم بفضول واهتمام. اقترب روبرتو من أحد الضباط، واسمه سيلفا، وأبلغه بكل ما تعرضت له ماريسا على يد عمها، وكان صوته مرتفعًا وواضحًا، مما أظهر غضبه ورغبته في تحقيق العدالة. استمع الضابط سيلفا إلى شهادة روبرتو وماريسا باهتمام كبير، ثم شعر بالغضب من سلوك عم ماريسا الشائن، وأثنى على شجاعة روبرتو في مساندة ماريسا وإحضارها إلى المركز، ثم قام باتخاذ الإجراءات اللازمة لإصدار أمر بالقبض على عم ماريسا، ثم طلب منه ترك ماريسا، حيث سيتم نقلها إلى إحدى دور الرعاية، لتلقي المزيد من الرعاية والاهتمام.  

رفعت ماريسا رأسها ونظرت إليه بعينين مليئتين بالدموع، وقالت بصوت حزين: 

"أرجوك، لا تتركني.أحتاج إليك بجانبي، لا أستطيع أن أواجه كل هذا بمفردي".

ورغم، تأثره الشديد بكلامها ورغبته الشديدة في البقاء معها، إلا أنه لم يتمكن من ذلك، ثم، غادر مركز الشرطة حزينًا، والدموع، تنهمر من عينيه، حيث تعلق بشدة بالفتاة، على الرغم من الساعاتِ القليلَةِ التي مضت على لقائه بهَا.

ورغم ذلك، لم يترك روبرتو ماريسا وحدها في محنتها وواصل دعمها من خلال زياراته إلى دار الرعاية للاطمئنان عليها، ومشاركتها لحظات من اللعب والمرح، وشراء كل ما تحتاج إليه لإسعادها،وعندما وصله خبر اعتقال عمها، الذي اعترف بما فعله بحقها، شعر بارتياح عميق، هذا الشعور الذي يغمر الإنسان، عندما يكون الخطر قد تلاشى.

روبرتو لم يدعم ماريسا نفسيًا فحسب، بل رأى أن قصتها المؤثرة تستحق أن تصل إلى أكبر عدد من الناس، لذا قرر أن يجسد قصتها في روايته الجديدة، ليس فقط كي يحكيها للعالم، بل ليجذب الانتباه إلى العنف ضد الأطفال وضرورة حمايتهم من التعرض له.

بدأ روبرتو بكتابة الرواية بحماسة وشغفٍ لا يوصف، وقد شعر بأنه استعاد قدرته على الإبداع، بعد أن ظن أنه لن يستعيدها مجددا.بعد أسابيع من الكتابة المتواصلة، انتهى روبرتو من كتابة الرواية، وبعدما قام بتدقيقها ومراجعتها بعناية شديدة، أرسلها إلى دار النشر التي يتعامل معها

لقد كان واثقًا تمامًا من أن هذه الرواية ستكون لها تأثيرًا كبيرًا على قلوب القراء وعقول النقاد، وتساهم في إنقاذ الكثير من الأطفال من التعرض للعنف الذي تعرضت له ماريسا. بعد نجاح روايته وتكريم الجمعيات المناهضة للعنف ضد الأطفال له، قرر روبرتو أن يتكفل بتربية ماريسا ورعايتها في منزله، حتى كبرت فعلًا وحققت حلمها وصارت رسامة مشهورة.


بقلم 


أحمد إبراهيم

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنَّى لي بعِمَامةِ أبي

الحمل الوديع

أشواك للبيع