المسطر



 قصة ~ المسطر 

الكاتب ~ د . نبراس سالم ~ يكتب..

«««««««««««««««««««

المسطر¹


-ما كل هذا الصراخ؟، كل ليلة يا حاج!، كل ليلة!، ما الأمر الآن؟، خيراً إن شاء الله؟

- تكلمتُ معه، لا يقُدّر ما أُعانيه من تعب وإجهاد، رغم كل التنازلات التي قدمتها متحملاً غياب أبسط متطلبات المعيشة للسكن فيها، سكنتها!!، وما زالوا يضايقونني سيد المدير، لكني سأتعود، تركت الأرض والزرع والأهل، جئت الى هنا، لأتمدن، سأصبح ابن المدينة، لن أُسمى ريفي بعد اليوم، حلم الطفولة، لن تثنيه عوائق سخيفة بعد كل تضحياتي.

أعطيتني غرفة بحمام مشترك، عشرة دنانير للسرير!!، يعني لو نمت واقفاً هل ستخفضون عليّ ثمن الليلة مثلاًٍ؟ وقبلت؛ أعمل عامل بناء بعشرين دينار أُجرة يوم واحد، بدينارين أتناول صحن مخلمة البيض بالبصل والطماطم وقرصة خبز و إستكان² شاي، أو صحن شوربة عدس بنفس السعر كنوع من التغيير، أما الغداء ففي العادة يتكرم صاحب العمل به علينا، وإن لم يفعل فصحن تمن³ مع صحن مرقة بدينارين آخرين، وصمونة⁴ مع ثلاثة قطع فلافل بدينار للعشاء، وأدخر خمسة عشر دينار، لو عملتُ الشهر كله،  نعم حتى لو لم أحصل على فرصة عمل، سآخذ صندوقا من الفلين، ممتليء بعصا الموطا⁵ في الصيف أقطع شوارع المدينة لأبيعها للأطفال، أو أبيع المناديل الورقية في تقاطع الشوارع الكبيرة حيث ازدحامات السيارات توفر فرصة بيع وافرة، في الشتاء، وبعد كل هذا، أجمع خمسمائة دينار، لا تكفي لزوجتي وطفلي الرضيع طعاما وحليبا، خصمت أجرة السفر واكتفيت بزيارتهم مرة كل شهرين، حتى في بعض الأحيان أصوم عن العشاء لو لم أحصل على عمل صباحا، أخدع نفسي بأنه جميل أن ينام الواحد فارغ البطن، ليتخلص من الكوابيس التي لم أحلم بها قط، أنام كالميت من التعب.

أنتَ صاحب الخان، أخبره بأن يوم العمل يبدأ من أول ساعات الفجر، على رصيف المسطر، نتوسل بصاحب كل سيارة تقف أو تخفف من سرعاتها، فقط لأنه يتمعن النظر فينا، نسعى خلفه بمسحاتنا وعدة البناء لنيل رضاه، نتغزل بمهارتنا في العمل، نأكد له خبرتنا لأي نوع عمل يطلب، ينال منا من ينال فرصة العمل، لم أدرك لغاية الآن ما المواصفات التي أختار فيه دون البقية، يمكن أن يكون الحظ، وأعرف جيداً نصيبي من حظ العالم، لم أعهد بتساوي الفرص في حياتي، أعلم أن للأنسان ما سعى، وها أنا فساعدوني، نعود نجر أذيال الخيبة متأملين صاحب سيارة أخرى، إلى آذان الظهر على هذا الحال.

لو كنتُ في قريتي لكان وقت عودتي من الأرض.

أخبر من ابتليتُ بجواره في القُن بسببك، ما نعرض أنفسنا له، وبأبخس الطرائق لنلفت نظرهم للحصول على فرصة العمل، وفي النهاية، بعد يوم مرهق، لا نحصل على عيشة عزيزة، كلا لن أقبل بهذه التجاوزات.

سيد المدير أحتاج قسطا من الراحة أنا أدفع فلوس لأجلها. 

كل يوم أعيدُ الموال، عندما كنت بعمره، أنام مبكراً وأنهض عند صلاة الفجر لأسعى بحثاً عن عمل، بعمره كانت لي عائلة، كم مرة أتوسل به أن يترك التدخين والشراب، الدخان ورائحة الخمر تُتعبني، وأن يترك الحرام والنساء، لكنه لا يصغي، لقد طفح الكيل، إما أن تنقلني إلى غرفة أخرى وإما هو، صدقني لا أستطيع النوم من كثرة إزعاجه، أصارع العمل في المسطر وأصارع النوم بسببه هنا، هل سأقضي حياتي كلها في المسطر؟، ليس هناك أمل بأن نتوافق.

- يا حاج، كم مرة أخبرك، ليس هناك أحد في غرفتك.

- أتظنني مجنون؟ ويحك، ومن يكون هذا الشاب أمامك؟، أتجرؤ! أن تصفني بالخرف.

- معاذ الله أن أقول هذا، أمامك مرآة وما تراه صورتك يا حاج، استهدي بالرحمن ونم.


١ المسطر: مكان يقف فيه العمال أنتظارا لمن يطلبهم.

٢ استكان: قدح شاي صغير.

٣ تمن: رز.

٤ صمونة: نوع من عجينة الطحين مشوي بفرن من الحجر مشهورة في العراق.

٥ الموطا: أيس كريم.


د. نبراس سالم.

بغداد

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنَّى لي بعِمَامةِ أبي

الحمل الوديع

أشواك للبيع