وساد الظلام
قصة ~ وساد الظلام
الكاتب ~ زايد التجاني ~ يكتب...
«««««««««««««««««««
وساد الظلام..
انتبه إلى نفسه .. كان ملقى على ظهره بلا حراك، بصعوبة تبين المكان الذي يطبعه الكثير من الظلام ، بالكاد ينفذ ضوء طفيف من ثقب أعلى السقف المائل، تململ بجسده رافعا رأسه نحوه ، أحس بآلام تنخر فخديه حتى العظم.. لاح له شبح امرأة ممددة في سكون ، وجه يعلوه غبار ممزوج بذرات الإسمنت، أراد أن يصرخ فيها لتنهض لإسعافه ، ألفى حلقه جافا.. ذرات الغبار كقطع الزجاج كانت تلسع حلقومه. عدل عن رغبته بعد أن أحس باختناق يكاد يقطع عنه الأنفاس.. جاءته أصوات أقدام مختلطة من فوق ، همهمات لم يتبين معناها
- هاهنا غار ! لقد تركتهم هنا قبل ساعتين
بعد قليل ساد ظلام أكثر بعد أن أدخل أحدهم رأسه وجزءا من كتفه صائحا :
- أم علي ؟ أحمد ؟ أحمااااااااد ؟
نزل عليه النداء من السقف كالسهم.. تململ قليلا فتحركت جراحه فتأوه، عاد فاستكان رافعا سبابته إلى السماء..
شدوا وسطه بحبل غليظ ، انزلق برجليه أولا وهو يتكئ على حافتين حادتين بمرفقيه ، ببطء كان يدور كخدروف في الفضاء الصامت ، بدأ يتفرس بعينيه في كل ركن ، أخيرا حط كطائر هدّه التعب وسط أكوام من الإسمنت والحديد ورائحة الموت.. لا حياة إلا من أنفاس الرجل الممدود في أقصى الركـن المظلم .. سارع إلى فك عقدة الحبل ، هرع إليه ، سأل متلعثما من هول المفاجأة :
أبتاه ؟ مم تشكو يا أبتاه ؟
بصعوبة سمع همسا ضعيفا ، تنبه إليه يشير إلى رجليه . . ثم لجسدين علاهما الغبار وطواهما الصمت المطبق. انحدرت من عينيه عبرات ساخنة خطت خديه الغائرين .. بلغ أسماعه هدير قصف بعيد ، توقفت عقارب الزمن في عقله ،تسمرت رجلاه بالأرض .. أفكاره كغيوم سوداء تبعثرها الرياح يمنة وشمالا. .. أشيروا علي يانس ماذا أقدم وماذا أأخر ؟ كأنه يسمع صوتا ، هات الأحياء أولا هيا أسرع .. تململ وتنحنح ليتأكد أنه حي ، بالكاد رأى الحبل يتحرك ويتلوى لولبيا..
حار.. اختلطت أفكاره حتى لم يعد يشعر بوجوده ، أيبدأ بالأجساد المسجاة قبل أن تدفن تحت الأنقاض ؟ أم يبدأ بالجسد الذي لازال يتنفس قبل أن تنقطع الأنفاس ؟ التفت في رهبة الى المسكينة المنكفئة على الوجه ..انحل الشال وانتفش الشعر المخضب بالبياض ونقاط حمراء.. زوجته الحامل لا يظهر منها غير رجلين كعودين يابسين..في الصباح الباكر فقط ،وضعت أمه حبات الزيتون مع كسرة خبز ، استنهضت همته وهي تصب الشاي،
- إن استطعت أن تنسف نفسك وسط رتل من الخنازير فافعل ! وحوش ..أوغاد ..! أردفت صارخة.
تأملها ، كانت قسمات وجهها النحيل تقطر غضبا ..كلماتها تخرج كالنار من فوهة بركان..
مسح بطن زوجته المنتفخ ببسمة لطيفة وعلق :
- حتى لو استشهد السلف ، فهناك دائما الخلف..
في الخارج بعد ساعات ، استغل الأوغاد إطلاق صاروخ تائه بلا عنوان ، فأطلقوا صواريخهم المتطورة ..كانت طائراتهم كالصقور الكاسرة التي تبحث بعيونها الثاقبة عن الطيور المهضومة الجناح..نحى الذكريات جانبا بآهة حارقة اخترقت أصداؤها الجسد، سارع إلى جر الرجل برفق ، عقد عقدة في وسطه ثم حمله على كتفيه ، كان مستسلما كشاة مذبوحة .. تناهت إليه تأوهات ضعيفة ،همس في أذنه : صبرا أبي صبرا، ستعود إليك عافيتك.. عاد الهدير فجأة يخترق الفضاء بقوة ، التصق بقطعة إسمنت كبيرة.. كانت العيون تدور في محاجرها..الأفئدة تنبض بقوة ..فجأة صك آذانهم دوي انفجار قوي ، وساد الظلام ..
..
زايد التجاني / المغرب
تعليقات
إرسال تعليق