ذكريات لا تنسى



 قصة ~ ذكريات لا تنسى

الكاتبة ~ سعاد جكيرف ~ تكتب...

«««««««««««««««««««««

ذكريات لا تنسى


تتملّكني رهبة ويتسارع خفقان قلبي،كلما قرّر أبي زيارة منزل جدي،لا أدري لِم يصرّ على ذلك،رغم أنه مضى ما يقارب العام على وفاته.

ترجته والدتي مرارا أن يبيعه،إلا أنه كان يثور عليها ويخاصمها لأيام،لست متأكدة إن كانت أمي كذلك تخشى ولوج بيت الرعب هذا،أم أن رؤيتها مادية بحتة .

منزل هو ذو طابع عمراني تليد، من طابقين، يتموضع في  منأى عن المدينة وصخبها، تحفّه أشجار الصنوبر الباسقة حاجبة نور الشمس عنه، مما زاده عتمة، فتحتّم علينا اعتماد الإنارة الكهربائية،غير أنها كانت متذبذبة  جرّاء اهتراء أغلب الأسلاك، "وهج الشموع" كان الحل الأنجع،فحرصنا على اقتنائها حرصنا على اقتناء المؤونة...

هذه الزيارة مخالفة لما سبقها من زيارات، فقد أسرّ لنا أبي،ونحن في الطريق، بأنه يحن لمرتع الصبا،ولذلك فهو يفكر جدّيا في تجديد المنزل لننتقل إليه لاحقا.

صعقت عند سماعي الخبر وارتعدت فرائصي، كيف ذلك؟!

هل جُنّ أبي؟! أم أنه أسلوبه الاستفزازي الذي ينتهجه،كلما رغب في  إغاظة أمي...

- قاطعته حانقة: كفاك شاعرية يا أبي!! أ نسيت الكابوس الذي عايشتُه في غرفة جدي؟!

-لا ،لم أنس يا حنين،تعرفين رأيي، مازلت أصر على أنها كانت مجرد تهيؤات ...

في الطابق الثاني من المنزل، يواجهك رواق  طويل مُدلهم، ينتهي  بباب خشبي صلد، عند فتحه يصدر صريرا هادرا يذكرك بتلك المنازل المسكونة في أفلام الرعب لألفريد هيتشكوك .

أتذكر جيدا ذلك اليوم، كان قد مر أسبوع على وفاة جدتي، اعتكف جدي في غرفته كمدا، ولسوء حظي انقطع التيار الكهربائي،فأخذت الشمعدان الفضي للطابق العلوي،صعدت الدرج وأنا أسابق الخطى ،أتحاشى النظر إلى الجدران التي تجسدت عليها ظلال سوداء تتمايل تباعا وكأنها تلاحقني، قطعت الرواق  ركضا، حتى كادت شعلة  الشمعة تخبو ،دفعت باب الغرفة دون استئذان،وياللهول!!

تسمرت مكاني وجحظت عيناي،عقد الفزع لساني فغدوت كالبكماء !!

إنها...إنها جدتي "بشحمها ولحمها" من تجلس على حافة السرير، بشالها الصوفي الأبيض لكن،هذا مستحيل!!

انتصبتْ فجأة،ودون أن تنطق ببنت شفة، انسلت من أمامي وتوارى شبحها في غياهب الظلام...

بخطى متثاقلة وأنفاس متقطعة،دنوت من جدي،هزّزته ليصحو...

- جدّتي... جدتي كانت هنا، تلتحف بالشّال الذي أهديتها إياه في عيد ميلادها الأخير؟!،أتصدّق هذا؟!

- بم تهذين يا حنين؟الأموات لا يعودون، والشال!! أين هو؟! وضعته فوق وسادتها لأتشمَّمَ شذا عطرها الفوّاح وأحسها بجانبي،لكن...

قطع شريط ذكرياتي،صوت والدي وهو يركن السيارة و يفصِح عن كنه زيارتنا هذه المرة:

كانت مجرد مزحة،لقد أتممت إجراءات بيع المنزل،أتيت لألقي نظرة وداع ونمضي.

انفرجت  أسارير وجهي،استجمعت شجاعتي وارتقيت السلم،للدور العلوي محاولة استذكار ما حدث لي منذ عشر سنوات، فتحت غرفة جدي،داهمت أنفي رائحة عطرة مألوفة ،إنه أريج الخزامى عطر جدتي المبجّل، هناك على الوسادة نفسها... "الشال الأبيض"!! لكن كيف وصل إلى هنا!! اقشعرّ بدني،لكنني تمالكت نفسي وتقدمت، تحسّست ملمسه الصوفي الناعم، أسدلته على كتفي،تأملت تفاصيل الغرفة للمرة الأخيرة و قبل أن أغلق الباب،همست" شكرا جزيلا على الهدية ".

تمت. 

                            بقلمي:     سعاد جكيرف

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنَّى لي بعِمَامةِ أبي

الحمل الوديع

أشواك للبيع