مذكراتي
قصة ~ مذكراتي
الكاتب ~ فاضل العذاري ~ يكتب...
«««««««««««««««««««««
مذكراتي
دق جرس هاتف المدير يطلب مني: تسليم ملف نتائج الفحص المختبري للعينات الخاصة بأحد الجسور. كان لرنينه الأثر البالغ في نفسي. تزاحمت خلف تساؤلاتي المتراكمة علامات استفهام عنيدة: كمطارق من حديد تلح في طرق الأبواب الموصدة لمخيلتي؛ لإيجاد عذر مناسب يبرر موقفي من فقدان هذا الملف.
أين اختفى هذا الملف اللعين الذي سيقضي على خدمتي الوظيفية بتهمة إهمال المستندات الرسمية؟
لا أحد يمتلك مفتاح دولاب الأضابير سواي في غرفتي الخاصة، وليس ثمة أثر لكسر الباب، أو أي شيء مريب يوحي بالسرقة.
كيف سأواجه المدير الذي تثور أعصابه لأتفه الأسباب، والبذاءة ترقد على طرف لسانه اللاذع؟
ربما يتلفظ بكلمات مسيئة تتوعد بعواقب وخيمة تمحو وظيفتي من خارطة الوجود.
لطالما تمنيت: لو تعلمت الكذب الأبيض مرة واحدة في حياتي، أو أستعير لسانًا كاذبًا من أحد المتمرسين لأؤديه بلباقة. المشكلة أن النتائج غير مطابقة للمواصفات، ولكن كيف أثبت ذلك رسميا؟ لم يكن لدي متسع من الوقت يسمح بإعادة الفحص، أو توجيه التهمة لأحد، وحتى العينات اختفت، أو ربما تم استبدالها، بينما اليوم هو آخر موعد للتسليم. كيف أتفادى هذه المحنة، وجميع من يحيط بي من مدير إلى أبسط موظف يبغض نقائي، ويحذر مني؛ لامتلاكي الأدلة والوثائق الرسمية التي تدين كل فرد منهم بالفساد؟
قدم لي العامل نصيحته بعد فترة، هو الوحيد الذي تعاطف معي، ناولني القلم، والحاسبة اليدوية، وإضبارة جديدة. ألح علي بكتابة الحسابات كيفما أتفق؛ لجعل النتائج مطابقة للمواصفات المطلوبة.
ذكرني بمرض أمي المزمن، وحاجتها الماسة للعلاج، واعتماد عائلتي على مرتبي الشهري الضئيل. حذرني من مزاج المدير السيئ الذي يمكنه: إحالتي للتحقيق، وإنهاء خدمتي الوظيفية بجرة قلم غاضبة إرضاء لشخص المقاول، وأنا على أعتاب الترقية والترفيع.
لما بدأت الكتابة في الملف الجديد أحسست بكلماته تحاول لوي ذراعي خدمة لسيده المدير، وتستنهض شيطانا ضعيفا في داخلي لكن ضميري سرعان ما شن عواصف رعدية أطاحت بكل الحجج والأعذار الواهية، وضجت في مخيلتي: مناظر انهيار الجسر بعد حين وسقوط الضحايا، وأصوات منبهات سيارات الإنقاذ.
ما أن خرج من الغرفة؛ حتى مزقت إضبارته الجديدة ورميتها في سلة المهملات دون أن يعلم. طرأت في ذهني فكرة أخرى أطهر بها ضميري لإفساد اللعبة. أخرجت من الدولاب الجزء الثاني من الفحوصات المعنونة باسم المقاول ذاته؛ لكسب الوقت لحين العثور على حل لفك طلاسم اللغز المحير.
سلمت الملف للمدير. عدت بسرعة إلى غرفتي؛ لأتحاشى أسئلته المدققة بالتفاصيل.
تخيلت منظر أكف الموظفين وهي تنتظر ساعة الصفر للتصفيق، وأقدامهم تستعد لدك الأرض طربا بدبكات شامتة: برؤيتي بعد قليل محاط بأفراد من الأمن مكبل بالقيود.
دق الجرس يطلبني مرة أخرى. لا أستطيع إخفاء الحقيقة أكثر من هذا الوقت، لا بد لي من الاعتراف. كانت نظراته حادة تكاد أن تنتزع الصدق من غضروف لساني:
- مهندس أحمد هل أنت متأكد من هذه النتائج؟
فتحت فمي لأعترف له بكل شيء، تفاجأت بلساني يطيل من عمر الكذبة، ويمنحها زمنا أكثر؛ لدرء الضرر عن نفسي، ولتهدئة أعصابه التي لا أعرف متى ستنفجر في وجهي، بينما تتحدث عيناي بلغة أخرى تختلف تماما عما أقول. أمرني بالانصراف: بحركة من ظهر كفه بعدم اهتمام، ومن وراء أنفه لامبالاة . عدت إلى غرفتي، وأنا الملم أشيائي الخاصة في حقيبتي. كم كان منظري محزنا ومثيرا للشفقة، وأنا أستعد لوداع هذه الدائرة التي عشت فيها مع ثلة من فاسدين يتربصون بصمت وشماتة سقوطي من مرتفعات شاهقة إلى أوحال آسنة ملوثة بسيئاتهم وكأن: وجودي بينهم يزاحم أنفاسهم في استنشاق الهواء؟ كم من مرة أحرقتني ألسنتهم بتلفيق التهم وبث الإشاعات المشوهة لنزاهتي لكنني بفضل الله أخرج كالعادة بوجه أبيض، وملامح تظهر هدوء قاسيا يثير: غضب سماسرة الفساد المالي في هذه الدائرة؟
دق الجرس مرة أخرى. أسمعه كأنه: يقرع منبهات الخطر، وصفارات سيارات الشرطة.
رأيته منهمكا بتدقيق الحسابات، يتحقق من صحة النتائج. الأمر الذي جعلني أقر وأعترف:
- أستاذ وسع صدرك لسماع الحقيقة.
نظر لي شزرا مطالبا بالتوضيح:
- ماذا تريد أن تقول؟
ما كدت أبدأ بالحديث حتى فوجئت بدخول العامل إلى غرفة الإدارة مسرعا دون أن يطرق الباب هاتفا:
- أستاذ أحمد وجدت الملف!
كانت كلماته قد غرزت في صدري: كسهام أصابت غفلتي، ووافقت حدسي، وساعدتني على فك طلاسم اللغز المحير.
انتصبت قامة المدير متقمصا دور النزيه وهو يمسك بالملفين ويتصفحهما ليسألني:
- ما معنى هذا؟ أصبح ملفين أحدهما مطابق للمواصفات وآخر مناقض لها.
ثم انفجر غاضبا بصوت قوي لا يخلو من الدجل والنفاق:
- أنت تمارس الغش في عملك الوظيفي. ليس أمامك سوى خيارين إما أن نرفع أمرك للشؤون القانونية، أو نعفو عنك مقابل أن تضع شريطا لاصقا على فمك وتصمت دون أن تنبس ببنت شفة عن الوثائق التي تدين بها الإدارة.
ابتسمت في وجهه ساخرا:
- لم يصدر مني أي تقصير ولا داعي لكلماتك المستفزة. لقد سلمتك نتائج الفحص للجزء الثاني: الذي يحمل اسم المقاول ذاته، المفترض تسليمه يوم غد، وقد وصلك الآن الجزء الأول.
فغر فمه مخذولا كالأبله، وانخفضت نبرة صوته قائلا:
- ولكنك كتبت إضبارة جديدة!
ما كان يضمره لي سرا من فخ للإيقاع بي في كل مرة: ظهر علنا في فلتات لسانه، ولم يحجب الحقيقة أي نقاب، أو مراوغة في الكلام بعد، وما هواجسي السابقة إلا من وقوع نظره على رقم الملف، وكشف الأمر لكنه لم ينتبه له لحد هذه اللحظة.
ماذا بعد أن تيقنت تماما أنه كان يخطط مسبقا لهذا المشهد بإلقاء القبض على ضميري، ومساومتي عليه سوى أنني أطالب الجهات العليا: بإجراء تحقيق لفتح ملفات الفساد السابقة، وكشف الوثائق السرية بعد ما كان الخوف يمنعني من الإبلاغ عنها؟
خرجت من الدائرة مسرعا بعد طلبي إجازة لعدة أيام. أطلقت ساقي للريح، استقللت سيارة للأجرة تنقلني إلى دائرة مكتب المفتش العام: الملاذ الوحيد الذي يطمئن ضميري باجتثاث جذور الفساد من مفاصل الدولة.
عمدت على تغيير منطقة سكني؛ تجنبا من مكائد الغدر والاغتيال. هكذا أنا طوال عمري الوظيفي أتوقع أسوأ الاحتمالات في انتظار النتائج؛ للتخفيف من حدة الصدمة التي تنتظرني في نهاية المطاف. انتظرت نتيجة التحقيق يوما بعد يوم رغم اندلاع حريق كبير في المختبر الإنشائي الذي أعمل به، وتلقي التهديدات المستمرة عبر المكالمات الهاتفية الواردة من أرقام غريبة.
قضيت هذه الأيام كلما أدخل في فسحة أمل أجد نفسي: أخرج من باب آخر يستقبلني فضاء واسع من اليأس والإحباط، تفاجئني خلاصة نتائج التحقيق بعد مدة: بترقية المدير إلى منصب رفيع في الدولة، وتعيين ذلك العامل في وظيفة جديدة بدرجة مساعد خاص له، وصدور أمر نقلي بوظيفة أدنى إلى منطقة نائية تبعد عن مدينتي بمسافة تثير في نفسي الكثير من الدهشة والاستغراب، ولا أعلم من الحدث القادم شيئا في هذه الليلة بعد سماع دوي إطلاق نار كثيف في الشارع، قد تكون هذه الكلمات الأخيرة ختام ما أكتبه من مذكرات في حياتي؛ ففي هذه الأثناء يطرق باب منزلي الجديد بعنف وشدة ربما بعد فتحه أو كسره يصاب رأسي أو جسدي برصاص غادر يوقف قلبي عن النبض إلى الأبد...
فاضل العذاري/ العراق
تعليقات
إرسال تعليق