أعذر من أنذر
قصة ~ أعذر من أنذر
الكاتب ~ فاضل العذاري ~ يكتب..
««««««««««««««««««««
أعذر من أنذر
همس في أذني ناصحا:
- إنج بجلدك قبل أن ترتبط بها، وينخر السوء سمعتك الطيبة، إنها تستغفلك، وتحب شخصا آخر، قد رأيتهما معا في مكان مريب.
ثم سحب أعلى قميصه للأمام، ونفخ في صدره؛ مستغفرا ربه من أسوأ الظنون.
طوقت عنقه بكفي، كدت أخنقه لولا تدخل بعض المارة لفض النزاع.
- اتق الله فيما تقول.
أسفح صرختي في وجهه كزلزال عنيف: أجهض الصبر من أعصابي، ونسف كل ما بنيته من أحلام. هكذا بدم بارد حاولت كلماته: حقن زفيرها في مخيلتي التي انتفخ حجمها باستنشاق السموم.
ما يثير دهشتي بعد هذا العشق القديم: طعنة الظهر المفاجئة التي اغتالت غفلتي، وسخرت من سذاجتي لأشعر أنني كنت من أعظم الأغبياء. الأمر الذي دعاني؛ للإسراع بعقد جلسة طارئة ليلا، ومحاكمتها غيابيا بحضور العقل، والقلب، والمخيلة، والذاكرة. تتوزع الأدوار فيها على جوارحي بين: قاض، ودفاع، وادعاء، وشهود.
تبدأ المخيلة: باستعراض ظنونها المسيئة على منصة المحكمة. يتشبث قلبي المسكين بنبضات ضعيفة: كمحام للدفاع عنها في الوقت الذي لا يملك فيه أي حجة، أو دليل. تستدعى الذاكرة كشاهد أول في ملف التحقيق لطرح بعض الأسئلة عليها:
- هل ثمة موقف مريب من الماضي يوحي بالغدر والخيانة؟
فترد بعدم ورود أي علامة فارقة تشير إلى ذلك. تضج الظنون؛ لإثبات التهمة، وتعرض تسجيلا صوتيا يكرر عبارة صديقي باستمرار:
- لقد رأيتهما معا.
تهمس نبضة خجولة من نبضات قلبي:
- وما الدليل؟
تجيب المخيلة بصوت عال:
- إنه أقرب الأصدقاء إليك، ويهمه أمرك. اسمع نصيحته، واجعلها كالقرط في صيوان أذنك.
- هل راودك الشك بها في وقت سابق من عمر علاقتكما مرة واحدة على الأقل.
والسؤال موجه إلى المخيلة؛ فتؤكد نزاهتها، وعدم استقبالها أي شائبة في ذلك الوقت. ينشب صراع حاد بين قلبي والظنون، يضطر العقل فيها إلى ضرب مطرقته على المنصة معلنا تأجيل الجلسة إلى إشعار آخر لعدم اكتمال الأدلة التي تثبت صحة الاتهام.
أحاول أن اتصل بها هاتفيا عدة مرات؛ فيتعذر علي الاتصال بسبب جهازها المغلق.
في الليلة الثانية أطلب من المخيلة استحضار المتهمة فورا، والاستماع إلى أقوالها للدفاع عن نفسها فتلبي ما طلبت. تبدأ بالقسم وتستطرد قائلة:
- أنا لم أعشق في هذه الدنيا سواك، ولم تفتش عيناي إلا على شخصك.
- إذن لماذا يتحدث عنك هذا الشخص بسوء؟
يخرج العقل فجأة من جلسة المحاكمة. أصفعها بشدة؛ فيتناثر القطن من الوسادة على الأرض. أخلع حزامي الجلدي لجلدها؛ فتتسع حدقتا عينيها بارتياب. تتوالى الضربات عليها؛ لانتزاع اعترافها وكشف الحقيقة. تغطي وجهها بكفيها، ثم تجهش بالبكاء كطفل مرعوب. أجلس بجانبها، أحتضن وسادتي بين ذراعي، أسقيها كأسا من الماء:
- لا تخافي عزيزتي، إنها غيرتي اللعينة، أعلم أن هذا الشخص افترى عليك، وأنك بريئة من كل هذه الاتهامات.
تحتج الظنون على تعاطفي معها، ومواساتها مطالبة بعدم الإشفاق عليها؛ لأنها لا ترقى إلى مستوى عشقي، ولم تعرف أي معنى للوفاء.
بمرور الأيام تعقد الجلسات في كل ليلة وتؤجل؛ لعدم ردها على الاتصال، وتعذر حضورها شخصيا لاستقصاء الحقيقة.
يأمر عقلي بعدم الإلحاح على استجواب المتهمة في كل مرة معلنا عن تأجيل الجلسة؛ فينتابني الخجل من سلوكي، وأنا أتحدث مع نفسي دون أن يشاركني في الغرفة أحد.
يرن جرس الهاتف منبها بوصول رسالة قصيرة. أحاول أن أتيقن تماما من سلامة سمعي، وبصري، ربما مس من جنون يغازل مخيلتي، ويفجر بركانا من: الثرثرة والهذيان، والأوهام التي اعتدت عليها الآن. أقرأ اسم المرسل؛ فأصدم به ماذا يريد مني أكثر من هذا العبث في أعصابي. أتفحص كلماته جيدا:
- حذار من الاتصال بها مجددا؛ لرفضها لك بسبب محاولتك المضللة لتشويه سمعتها النقية، ولأنها أصبحت على ذمتي بعد أن تم عقد قراني عليها منذ أيام، وقد أعذر من أنذر.
أرمي جهاز الهاتف؛ فتتشظى خلايا مخي مع حطامه على الجدار. أخرج فورا من البيت على غير هدى برفقة جنوني؛ من أثر الصدمة العنيفة التي دهست خلايا عقلي، واستجابت لها أعصابي بشكل مثير للضحك تارة، ومسيل للدموع تارة أخرى.
بين الحين والآخر، يتكرر صدى رنين جرس الهاتف في ذهني. يلسعني لهيب كلمات رسالته: كسياط من الرعب تفصل مخيلتي عن قشرتها فتفر مذعورة في الفضاء إلى زمن ضبابي، مجهول تختفي فيه الصور، والأحداث، سرعان ما يغلف ذاكرتي بالشمع الأحمر لحين انتهاء مفعول الصدمة...
فاضل العذاري/ العراق
تعليقات
إرسال تعليق