وخزة قلب



 قصة ~ وخزة قلب 

الكاتب ~ فاضل العذاري ~ يكتب ..

««««««««««««««««««««

وخزة قلب

صباحا لما هم بالخروج من البيت: انتابته حالة من العطاس، اعترضت طريقه أمه بفطرتها النقية، واضعة يدها على كتفه: تطلب منه الصبر والتريث.

تذكر: ما بذله من جهد بالغ ليلة أمس؛ ليضمن موافقتها بالسماح له على تسجيل اسمه في السفرة المدرسية. ما أن داهمه العطاس مرة ثانية؛ حتى قبلت جبينه، شمته في عنقه، حصنته بدعواتها للعودة سالما، وأذنت له بالخروج، ثم رشت حفنة من الماء خلف خطواته المودعة.

في الطريق اختار أقرب الأصدقاء إلى نفسه وأكثرهم هدوء وحكمة؛ ليرافقه في الرحلة.

عند الوصول إلى المدينة السياحية، وبعد مرور فترة من التنزه على ضفة النهر، ومتعة النظر إلى سطح الماء المتموج بزرقة السماء، مع ارتعاشة ظل سعف النخيل، ووهج الشمس الغارق فيه، هتف أحد الطلبة:

- هلموا بنا؛ كي نعوم في ماء النهر.

احتفظ بالصمت بعد ما رحب أصدقاؤه بمقترح زميلهم.

تراءت له في تلك اللحظة صورة أمه من خلفهم: تشير له بكفها الرافضة بشدة لهذا المقترح.

تذكرها منذ أيام طفولته: إذا ما عاد متأخرا إلى البيت المطل على النهر ببضعة أمتار، كيف كانت تفتش بين خصلات شعر رأسه عن آثار ذرات رمال الشاطئ خشية عليه من الغرق؟ لطالما حذرته من ماء النهر بقولها: إن يغدر، فقد غدر بأخ لك من قبل ولادتي لك. وقد عوضني الله بك. احرص على أن لا تقترب منه كي لا تفجع قلبي مرة أخرى.

تذكر كلمات أبيه المتوفى عندما كان يصف له المشهد الأخير من تلك الحادثة:

- قبل مغيب الشمس: عثر على جثة أخيك في النهر بمنطقة نائية، لما شيع نعشه الطاهر أمام البيت بعد الغروب، هرعت إليه أمك بمنظر مفجع ما زال يمكث في ذاكرتي إلى الأبد حيث تمددت بجانبه لترضعه من ثديها.

كادت ذاكرته تستمر بعرض تلك المأساة لولا أن رأى كف أحدهم: تهتز أمام عينيه ساخرا من شروده الذهني، وقد تجمع حوله جمع من الأصدقاء الذين استفزهم صمته المفاجئ:

- ما رأيك هل تشاركنا؟

دون تردد أجاب:

- سأنتظركم هنا على الضفة فأنا لا أجيد السباحة.

بعد تلفظه تلك العبارة تعالت الضحكات كأنه؛ ألقى على مسامعهم نكتة قوية.

بدأوا بتوسلاتهم الملحة:

- نحن لا نعوم إذا لم تكن معنا؛ فلا تحرمنا من قضاء أجمل الأوقات.

لم يجد منفذا سوى التوسل بهم:

- أرجوكم دعوني وشأني.

مسك أحدهم بذراعه ليهون عليه الأمر:

- لا تخف، العملية سهلة جدا ما هي: إلا حركات بذراعين وساقين تبطش بالماء.

أردف آخر قائلا:

- حاول أن تسبح في جرف النهر.

استطرد آخر بإغرائه ملوحا بذراعيه في الهواء بطريقة مسرحية:

- غطسة منعشة في أعماق النهر تنسيك حرارة الصيف اللافحة.

سحبه الجميع بقوة، بينما ارتدت خطواته إلى الخلف متوسلا. قيدوه بأذرعهم، جردوه من ثيابه، ظهر عاريا إلا من لباسه الداخلي. استقبلوه بالتصفيق والتصفير ورشق الماء على جسده بأكف طائشة تدفعه نحو حافة النهر.

لم يجد مفرا من الثبات على موقفه سوى الرضوخ؛ لتلبية رغبتهم تحت ضغط إلحاحهم المستمر. حدث نفسه بطلب الغفران من أمه حال عودته عن هذه المرة الوحيدة التي: عدها الأولى والأخيرة. رمى بجسده من مرتفع عال فوق جرف النهر. راح يعوم في مسافة قصيرة بمدى محدود بين الجرف وصخرة قريبة: تتوسط النهر يصل لها ذهابا وإيابا. تملكته حالة من الثقة الزائدة بمهارته: تتيح له العبور إلى الضفة المقابلة، ومنحته الشعور بلذة الانتصار على عدو أمه اللدود.

تخذله قواه في الربع الأخير من المسافة، يتخبط بعنف على سطح الماء، ينتابه الذعر والارتباك حائرا ما بين التقدم إلى الأمام وبين العودة إلى الضفة. يحاول أن يمد ذراعيه للتجذيف بسرعة بينما يركل بساقيه كميات المياه الهادرة دون أن يفلح. وخزة مفاجئة في صدر أمه. تسقط كأس الماء من يدها؛ فيتناثر زجاجها على الأرض. تضع يدها على صدرها. تذبل ملامحها بسرعة فائقة. تنشط مخيلتها في استقبال أسوء الظنون، خشية من قسوة القدر المجهول. يردد لسانها بدعاء: (اللهم لا نسألك رد القضاء ولكن نسألك اللطف فيه). يهبط إلى الأسفل، تصل قدماه إلى رمال القاع في منحدر يتجاوز أضعاف قامته، وبصعوبة بالغة يحاول أن يرتقي إلى الأعلى ليظهر رأسه كي ينتبه إليه أحد. يحاول أن يلتقط شهيقا يسعف الثواني الثمينة من عمره؛ فيستنشق كمية من الماء بدلا من الهواء. يهبط ثم يظهر بشكل متناوب، يفرغ ما تكدس من الماء في فمه سرعان ما يمتلأ جوفه مرة أخرى، ويهبط جسده إلى القاع. يحاول بمرات عديدة: أن يظهر رأسه على سطح الماء، ما أن يفتح فمه لإطلاق استغاثة حتى تختنق حنجرته؛ فتضيع طيات صوته بغرغرة من الماء الكثيف. يجرف جسده تيار قوي سريع؛ فيتأرجح صعودا وهبوطا نحو الأماكن العميقة والأشد خطورة. يتلفظ الشهادتين في قلبه مستسلما للموت. تسبغ أمه الوضوء، تؤدي الصلاة، تفتح المصحف الشريف تظهر لها سورة يوسف عليه السلام، وتبدأ بتلاوتها. تتضرع بالدعوات إلى الله؛ لحفظ ولدها الوحيد.

يقترب إليه أحد الأشخاص محاولا إنقاذه. تدفعه غريزة البقاء بالتشبث بجسد المنقذ وتضييق الخناق عليه بصراع عنيف. يتنحى عنه ذلك الشخص من طوقه المميت؛ فيتركه خشية على نفسه من الغرق. تضع خدها على موضع السجود باكية، ترفع رأسها من الأرض، وتبتهل إلى الله بحرقة قلب، وصوت خاشع ينادي (ياغياث المستغيثين).

يقبل عليه صديقه المقرب يصرخ به:

تشبث بظهري. ينفذ ما بلغ به بطاعة عمياء.

يغطس صديقه تحت سطح الماء، يحاول أن يكون خلفه وتحت جسده تماما ليرتقي ظهره فيتشبث بكتفيه بسرعة، ويطفو على سطح الماء محمولا على ظهر صديقه الذي يستخدم ذراعه اليمنى للتجذيف، بينما تمسك الأخرى يد صاحبه. رويدا رويدا حتى يصل به إلى ضفة الأمان: حيث يفاجئ بقهقهات الأصدقاء الساخرة الذين تقوست قاماتهم إلى الأرض من شدة الضحك على حالته المزرية. في هذه اللحظة: تستنشق أمه نسمة طيبة تملأ صدرها راحة وطمأنينة؛ فتضع جبهتها على الأرض، وتسجد سجدة الشكر على: ما أنعم الله به من زوال الغم من صدرها، ودفع السوء والبلاء...    

                         فاضل العذاري/ العراق 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنَّى لي بعِمَامةِ أبي

الحمل الوديع

أشواك للبيع