ليالٍ خرساء
قصة ~ ليالٍ خرساء
الكاتب ~د . انور ساطع أصفري ~ يكتب..
«««««««««««««««««««««««
ليالٍ خرساء .
----------------
جلستْ في الثانية صباحاً بتوقيتِ الغربةِ ، على حافةٍ سريرها تحاول أن تفهم سرّ الخصام المفاجىء بينها وبين السهاد ، داهمتها أفكارٌ ليست كالافكار ، احتلّ صوته رأسها وهو يحدثها من خلف ستارةِ النافذة ، قاطعة أربعمائة ميلٍ في ومضةِ عين ، لتستقر أمامه شامخةً في بهو المنزل .
لم تكترث لأي شيء ، ولا لأيِ صوت ، إلاّ صوته الذي ترددّ صداه في صدرها و استقر في العمقِ كطعنةٍ وصلت من خلف عدّةِ جدرانٍ و باب موصد وممر طويلٍ متعرّج .
تناولت لفافة تبغ ٍ ، أشعلتها ، نفثت دخانها عالياً ، رأته جالساً أمامها على كرسيّه الخمري بالغرفة الضيقة التي شهدت بصمات لقائهما الأخير ، علت وجهه ابتسامة خجولة وسألها بفضول :
لماذا عدتِ ؟.
سمعت كلماته ، صمتت ، تابعته من خلف دخان تبغها الذي حال بينهما ، شعرت كغجريةٍ تائهة بحاجةٍ لعناقه ، لغفوةٍ يسترجع فيها قلبها المضطرب إيقاع السكون .
رمت نفسها على صدره آملةً أن يتوقف الزمن هنا وتستقر .
بحثت عن أي ِّ شيءٍ يحررّها من مخالب الضياعِ والأرق التي مزقتها ، تناولت حبة مهدّىءٍ ، استلقت فوق السرير كجثةٍ تائهةٍ تحت مصباحٍ متدلٍ فوقها من سقف الغرفة ، تصببّت عرقاً ، ضجيج أنفاسها يعيدها بالذاكرة إلى أنين فتاةٍ وحيدة في غرفةٍ بمشفى خارج حدود المكان ، تفصلها عنه بقايا عشقٍ نازف ، وآلاف الأميال ، ومئات التعرجات الجغرافية الإنسيابية والمخيفة .
أتعب نظرها ضوء الغرفة المكتظة بالأشباح الزرقاء والكمامات البيضاء والأدواتِ الطبيّة التي تبعثرت بانتظامٍ جانبها ، رائحة الدم والمخدر تثير الغثيان ، ينبعث في ثغرها طعمٌ مرٌ ، طبيب التخدير ينتصب فوق رأسها كملاك الموت يقبل جبينها بزهوٍ ويهمس لها بصوتٍ غير واضح القسمات :
لا مفرّ أمامك .
تنزوي خلف نافذة تراقب الدروب المهجورة ، وزخّات المطر التي انطلقت مهاجرة ، قاطعة كل تلك المسافات لتموت صريعة على الأرصفة تحت أقدام المارّة .
لحن حزين مُعتّقٌ معلّق في طيّات ذاكرتها منذ طفولتها المُبكّرة ، يتهادى بخفّةٍ ، فتراءى لها أن أيدٍ خفيّة اختطفتها مخمورة بحفلة راقصة ، تتناقلها الأيدي كالدمية الوحيدةٍ بمتجر الألعاب ، تصارع عليها الكثير حتى سقطت محطمة على الأرض ، فلم يكترث أحد لها ، ولا دمعة واحدة ذُرفت عليها ، انفضّوا جميعا من حولها ، تركوها مهشمة ومبعثرة على الأرض ، تفرقوا باحثين عن لعبةٍ جديدةٍ أخرى يتصارعون حولها وعليها .
د. أنور ساطع أصفري
تعليقات
إرسال تعليق