انين الصمت
ق.ق ~ انين الصمت
الكاتب ~ عادل عبد الله تهامي ~ يكتب...
««««««««««««««««««««««
.. أنين الصمت ..
يشعر بنار تتقد ،يمر بيده على موضع الألم ،يشعر بحرارة تكاد تخترق جلد رأسه، حدد مكانا، وتوقع أن تنفذ منه نافورة دماء ..!
غيمة حجبت الرؤية عن عينه حتى بدوا
كأشباح، وكلماتهم وصراخهم أصبح كأزيز طائرات مغيرة ، وأسلم جسده رغما عنه على مقعده الوثير ،وأغمض
عينيه وغلبه أشبه بغيبوبة ..!
لم ينتبهوا لما حدث له ،ونهضوا واحدا
تلو الآخر واللعنات على ألسنتهم تنعت الزمن الذي جمعهم معا ، ويتمنون أن يكون فراقهم أبديا .
حين بدأ إدراكه يعود تدريجيا شعر بالدماء تخضب قميصه وبنطاله و يديه ،
تحسس أنفه بيد مرتعشة ،شعر بسائل دافئ ،قربه من عينه ،وجده بلون أحمر
داكن متخثر ،فأدرك مغزاه ،وحمد الله
سبحانه أن الدماء وجدت منفذا لتخرج
بدلا من أن ينفجر رأسه بنزيف داخلي
لا يحمد عقباه .
الإحباط يسيطر عليه ،وعقله عاجزا عن
استيعاب ما حدث ، بدأ النشاط يدب في
أوصاله ،فحرك ذراعه الأيمن ثم الأيسر
حاول الوقوف بدءا من القدم اليمنى ثم اليسرى ، بدا كطفل يتعلم الوقوف ثم
يتجرأ على محاولة المشي ،كرر المحاولة حتى نجح،صعد إلى غرفته لاستبدال ملابسه ثم هبط سريعا و سار عبر الدهليز الطويل حتى بلغ باب القصر ، حين فتحه شعر براحة عجيبة .
مضى من خلال الممر الرئيسي نحو الجراچ ،وقصد سيارته البويك الحمراء ، فتح بابها بزر السيطرة ،وجلس لحظات على مقعد القيادة يفكر في وجهة بعيدة عن المكان ورواده ، محاولا تناسي الأحداث الساخنة التي كادت تودي به .
استقر رأيه على القيادة دون هدف ، ربما
تقوده السيارة لمكان يغير من حالته المزاجية التي وصلت لأدنى مراحلها .
الليل يخيم على الشوارع ولكن خيطا رفيعا من الضوء يتخلل سواده الحالك
نظر إلى ساعته السويسرية التي ورثها
عن والده يوم تخطيه المرحلة الثانوية
كانت هدية قيمة؛ لأنها انتقلت من كابر إلى كابر حتى وصلته دون إخوته ..!
أدرك أنها تباشير الفجر ، رمق محلا في منطقة شعبية لم يرتدها من قبل ، لاك لعابه في دهشة حين سمع استغاثة ما قبل الفجر ،و تابع بعينيه رجالا يتحركون صوب المسجد ، و نساء منتقبات ، بحث عن مكان لسيارته ؛ فنفحات المكان و عبقه يجذبانه ،
دخل المسجد و بحث عن مكان الوضوء
شعر بروعة المياه حين يبلل بها رأسه
و يتمتم ببعض الأدعية ،حين توجه لأقرب مكان من القبلة كان الشيخ يتأهب ليصدح بأذان الفجر ، نوى صلاة
ركعتين لتحية المسجد ، ثم صلى السنة
و كرر سورة الضحى في الركعتين ، وتوقف عند الآية الكريمة "ما ودعك ربك وما قلى" ، كم كان يحب هذه اللحظة من الخلوة مع ربه يناجيه
و يبثه شكواه .
حين رفع الشيخ أذان الإقامة ،كان يتخذ
مكانه خلف الإمام مباشرة ،علت وجهه
الدهشة حين استهل الشيخ الركعة الأولى بصورة الضحى بعد فاتحة الكتاب ..!
بمجرد إنتهاء الصلاة كان المطعم الذى رآه هو بيت القصيد ؛ فالجوع لا يقاوم
جلس على إحدى الطاولات ونظر حوله
فلم يجد زبائن غيره ، طلب طعمية وباذنجان وفول وهي من الأشياء التي
يشتاق إليها كثيرا ، ابتاع جريدة الصباح
من المحل على ناصية الشارع ،انهمك في القراءة حتى يجهز المطعم طلبه .
فتح الجريدة وقرأ العناوين الرئيسية
ثم طواها و وضعها أمامه ، تفحص الشارع أمامه ،لفت نظره المجذوب بشعره المجعد الطويل ،و لحيته غير المهذبة، و شاربه غير المنتظم
و التصاقه الغريب بالذقن حتى بدت عيناه كثقبين شديدي الدقة يبرزان على فترات ، وملابسه الممزقة بألوان الرمادي المتدرج تشي بسابق بياض الثوب وبقدر
اتساخه نظرا لعدم استبداله أو تنظيفه ،
نهض من مكانه قاصدا المجذوب ، وأجلسه بجانبه ، و صاح على عامل المطعم ؛ليحضر طلبا مشابها و لكن
العامل تململ و بدا غاضبا غير متقبل لما يحدث ولكنه امتص غضبه قائلا :
لماذا كل هذا الاعتراض ، هل تخشى على أكوابك و أطباقك منه ؟!
سأدفع لك ثمنها و أكثر ، إنه إنسان
و جائع ،و نحن بشر مثله ..!
وضع العامل الأطباق لكليهما وهو يمتعض ،ويتمتم بكلمات غير مفهومة .
وراقب زبائنه بدهشة غير مصدق لما يحدث ؛ فالفارق كبير و المستوى المعيشى لا يقارن .
تناول طعامه غير آبه بانفعالات عامل المطعم ، وبدا المجذوب سعيدا بطعامه
يلتهمه كفريسة بلا حول و لا قوة ..!
كان يتحدث للمجذوب و هو على يقين
أنه لن يفهمه و لن يرد عليه ،و لكنه استمر في تساؤلاته عن تغير مشاعر الأشقاء إلى الحد الذي يحولهم لأعداء ، وتزيد حيرته و هو يستعيد ما حدث صباحا من خلافات على الميراث الذي تركه الوالد الراحل، و المجذوب يهز رأسه مع ابتسامة غريبة دون أي كلمات مما يجعله يسأل دون ثقة في إجابة المجذوب :
هل تفهمني ؟!
هل تعرف ما أقوله لك؟!
إن كنت تفهمني فرد بأي طريقة حتى يستريح قلبي ..
نظراته للمجذوب كانت بطريقة توحي
بالاستجداء والاستعطاف ، والمجذوب
ينصت أو هكذا بدا له ، ثم تفاجأ بقيام
المجذوب من مكانه قاصدا عامل المطعم ،فنهض من مكانه خشية أن
يحدث ما لا يحمد عقباه، و لكنه وجد المجذوب يخطف كراسة المديونية والقلم و يعود سريعا لطاولته ،و العامل
يتبعه في غضب ،و لكنه أشار للعامل بالتمهل ، أمسك المجذوب بالورقة والقلم بطريقة احترافية وكتب بخط
جميل دون أخطاء إملائية :
إسمي: حسين علي حسن
وظيفتي : مهندس كهرباء
جهة عملى: الزقازيق
ملاحظة:
أفيق لمدة ساعة وأغيب عن الوعي باقي اليوم ...!
كان العامل يتابع بدهشة مايحدث ، وتابعت عيناه حروف الكلمات حتى
أن الحديث تغير بين العامل وبينه
حين قال:جزاك الله خيرا يا أستاذ
سيجعل الله ما تواجهه من عسر يسرا
و بينما هو ينصت للعامل قرأ رسالة
واتس آب قائلا: صدقت فقد جاء فرج الله .
عادل عبد الله تهامي السيد علي
مصر
تعليقات
إرسال تعليق