عزلة
قصة ~ عزلة
الكاتبة ~ فاطمة موسى وجي ~ تكتب...
«««««««««««««««««««««««
عزلة
ثلاثون دقيقة لانطلاق الحصة المسائية، وقفت في ظل شجرة منتظرة سيارة زملائي. على بعد خطوات قليلة كان جالسا، أو هكذا خيل إلي، كان يقف ويجلس، ثم ينحني أرضا فيقف من جديد، ثم يجلس، ثم يقف، وينحني وهكذا..لا يستقر حلى حال.
كان لنظارتي الفضل في أن أراقبه خفية، رغم أنه لم يكن مكترثا بمن حوله، منكبا كان على نفسه، معزول عن العالم، القليل من المارة من يلتفت له،وكأنهم أيضا يبادلونه التجاهل.
حركاته لا تتوقف، يفتح كيسا ورقيا، به بعض الفتات من الطعام، ثم يعود للفافة بين أصابعه، يوليها عناية فائقة، يديرها بين أصابعه المتسخة بتركيز وإتقان. يعود إلى الكيس، يأخذ قطعة الخبز، يسقطها أرضا، ثم يقضمها. يعود إلى اللفافة، نفس الحركة بنفس التركيز. يتفقد قطع الطعام، يعيد رميها، ثم يلتقطها ليلتهم منها الشيء اليسير.
غريب أمره فعلا، فالحركتان معا أشبه بمقطعي أغنية، أبدع فيها فنان وأصبح يؤديها بإتقان رهيب. مقطع الكوبليه هو اقتناص قطع الأكل، والكورس هو فتل اللفافة الورقية.
أراه فنانا بحق، فهو يؤدي كورس أغنيته ببراعة لا متناهية، ينكب على لفافته بتركيز كبير، كصائغ يتفنن في نقش قطعة مجوهرات يأبى إلا أن يصنع منها تحفة فنية. في المقابل، تجد حركاته الأخرى، كالوقوف والجلوس والأكل، كلها شبه آلية. ربما ستكون كذلك أو من المفترض أن تكون كذلك، لأنها حركات تلقائية لا تستوجب الدقة والبراعة. لكني أجدها مع ذلك سلوكات لا وعي فيها. بخلاف حركته الأخرى، التي يحضر فيها كل الوعي، فيها استنفار لجميع الحواس والملكات. فيها حضور كبير لذاته.
هذا المسكين، الوحيد وسط العالم الصاخب، خلق لنفسه عالما آخر، بل خلق من نفسه كائنا آخر. لا يعي ولا يرى ولا يلامس أي شيء غير اللفافات التي يدخنها، أما ما دون ذلك،فهو مجرد خواء وسراب.
وصلت السيارة، فتركت المكان مخلفة ورائي مشهدا دراميا يشبه ميدان حرب، احترقت فيه كل الأجهزة والآليات واختلطت بجثث الجنود والضحايا.
فاطمة موسى وجى
تعليقات
إرسال تعليق