بُرْء
قصة ~ بُرْء
الكاتبة ~ سعاد جكيرف ~ تكتب...
«««««««««««««««««««
بُرْء
على الرغم من أني أعاني فوبيا الظلام، و لا أجرؤ على المكوث وسط العتمة للحظات، إلا أن أفلام الرعب تستهويني كثيرا،فأنا مهووسة بكل ما له علاقة بالميتافيزيقيا وما وراء الطبيعة، من يعرفني يستغرب هذا التناقض في شخصيتي، جرأة واندفاع يميزاني نهارا،بحكم مهنتي كصحفية لا تهاب الصعاب ولا تخشى المخاطر، وجبن وخوف يعترياني ،كلما حل الليل وخيم الظلام ،فأنا تلك التي لا تجرؤ على خط بضع خطوات لوحدها،دون إشعال حزمة من الشموع عند انقطاع التيار الكهربائي ،نقطة ضعفي هذه تنكد علي الصراحة، حاولت مرارا التغلب عليها،لكن تخونني شجاعتي، إذ بمجرد أن أطفئ الأنوار،عند خلودي للنوم،تتملكني قشعريرة باردة تسري في كامل جسدي وينبض قلبي بشدة"أخاله يكاد يخترق غلافه " وأتصبب عرقا، دقيقة، دقيقتين على الأكثر وأعلن فشلي الذريع في مواصلة التحدي، أضغط زر النور، فتنجلي الغمة وأعود لسابق عهدي فأتنفس الصعداء، هنا تنتهي معاناة لتبدأ أخرى،تنمّر زوجي واستهزاؤه بمخاوفي،جعلنا في الكثير من المرات نتشاجر رغم حبنا الأسطوري، فألجأ للنوم في غرفة صغيري المضاءة دوما،ونبقى على خصام لأيام،حتى يعتذر، فنتصالح لكننا لا نلبث أن نعاود الكرة من جديد ،روتين أربكني وأتعبني،مما حتم علي زيارة طبيب نفسي، آملة في علاج يساعدني على تخطي هواجسي التي نكدت علي عيشي واستقراري...
يوم انبجس الطوفان وتزعزع طغيان من احتلوا الارض وسلبوا العرض وعاثوا فسادا في مقدساتنا،
و بين فرحة عارمة غمرتنا،و أنفة ونخوة خالجتنا،هاج وماج من اعتقدوا أنفسهم عتاة لا يهزمون، فراعنة لا يقهرون، باشروا في تنفيذ مخططاتهم السادية اتجاه شعب أعزل، وبحكم عملي، فقد تجندت مع الكثيرين من زملاء المهنة، لنقل بشاعة ما يحدث لشعبنا الأبي، من قصف همجي،طال العمران والبنى التحتية ،و تقتيل لأطفال ونساء لا حول لهم ولا قوة واعتقال لشباب في عمر الزهور...
لن أنساه ذلك اليوم قط،تركت ابني عند والدتي،ومضيت وزوجي كل لعمله، هو في المستشفى، وأنا لأرض الوغى، فوجئنا بقصف عشوائي للأحياء، نشيج الصغار وعويل الثكالى يصم الآذان،الكل يهرول مكبرا،لنجدة المصابين والجرحى ومن هم تحت الأنقاض محاصرون، وأنا أتنقل بين الجموع ،أنقل حقيقة الإبادة التي استهدفتنا،استوقفني منظر بنت لا تتجاوز العاشرة من العمر، تصرخ طالبة المساعدة، هرعت نحوها، لأفاجأ بها تمسك بيد أحدهم وتطمئنه بأنها ستساعده ليخرج من تحت الردم...
- من يكون هذا عزيزتي؟
- إنه أخي،أخي آدم،أرجوك ساعديه
- حسنا،حسنا لا تجزعي،مسحت على رأسها بحنو،وتقدمت أحاذر الخطى، حاولت وزميلي المصور إزالة الردم،لكن عجزنا، فالكثير من الحجارة تحجبنا عنه،عدا تلك الكف الصغيرة...
- يا ليتني لم أخرج وأتركه وحيدا، لقد وعدت ماما أن أعتني به وألا أتركه يبكي جوعا،خرجت لأبحث له عن طعام يأكله،وعند عودتي، كان المأوى الذي نحتمي فيه قد قصف
- وأين هي والدتك؟
-ماما؟لا أدري، فقدتها بعد الانفجار الذي طال مستشفى المعمداني الأسبوع الماضي.
- سأحاول الدخول من ذلك الصدع في الجدار.
بحكم نحافتي ربما استطعت تحريره من الداخل، قلت هذا لزميلي،وبصعوبة ولجت،كان المكان ضيقا معتما،إلا من أشعة باهتة تتسلل في الأرجاء، ارتبكت ، لكنني تشجعت، وتقدمت أغالبُ خوفي، باحثة عن الصغير، يا للهول!! فزعت لفظاعة المشهد،كانت ذراعه فقط !! لا أثر للصغير، تراجعت للوراء مرعوبة، فتعثرت في شيء ما،لم أتبين كنهه،تحسسته، ياإلهي!! إنه ...إنه ماتبقى منه!!لم أستطع تمالك نفسي، صرخت،صرخة مدوية تزامنت مع قصف جديد، زلزل الجدران من حولي...
لا أدري كم من الوقت بقيت فاقدة للوعي،رجفة سرت بكامل جسدي،أفقت على إثرها،تفحصت ماحولي، لا شيء،عدا العتمة ورائحة الموت تفوح في الأرجاء،يبدو أنه قد مرت فترة طويلة وأنا محتجزة هنا، تحاملت على نفسي لأقف،إلا أنني عجزت، استرسلت أقرأ ما تيسر من القرآن،بصوت مسموع عساني أخفف من نوبة الهلع التي أصابتي ساعة أو أكثر وأنا على هذه الحال، فجأة، سمعت من يرتل القرآن من بعيد، صوت امرأة أعتقد،اطمأنت نفسي قليلا فأنا على الأقل لست لوحدي، أصبحنا نتداول التلاوة، عسى يسمعنا من في الخارج...
غفوت ربما،أو أغمي علي من جديد،لم أع ماجرى لي،وعندما فتحت عيني، أحسست بأنفاس قربي!!
مرعوبة صدحت:من هناك؟!هل من أحد هنا؟!
أجابني صوتها المبحوح:أنا، إنه أنا،
والدة آدم،أشكرك لأنك خاطرت بحياتك لإنقاذه.
-لكن،لكن من؟أتقصدين الصغير أو ما تبقى منه، إنه ميت للأسف...
- كلنا ميتون يا ابنتي،كلنا ميتون...
- ماذا تقصدين؟ أنا أنا حية أرزق،أنا أتنفس، لكن أخبريني،كيف وصلت إلى هنا،هل...
- أستاذة سلمى،هل تسمعينني؟
- نعم،نعم،أنقذوني،أنا بخير، مصابة لا أستطيع الحراك،
أ ترين يا خالة، نحن بخير، سينقذوننا بعد لحظات، لم ترد علي، ناديتها مرارا،لكن لا رد،لم أبالي، ففرحتي بسماع الجلبة في الخارج ألهتني...
مر وقت طويل،وأنا أنتظر،أنصت لأصوات المسعفين،أكاد أميز صوته، إنه هو علي، لقد حضر لنجدتي، أعتقد أنهم أخبروه ،يا الله!! كم أتوق لاحتضانه وصغيري،كم أتوق لالتئام شملنا من جديد، سيفرح كثيرا حين أخبره أنني تغلبت على البعبع الذي طالما أرعبني ، لن يتهكم علي من جديد، غدوت لا أخشى الظلام،لن نتشاجر بعد اليوم...
- بعد جهد جهيد، انهار الجدار الفاصل بيننا، وأنارت مصابيحهم المكان،ارتمى علي يحتضنني ويبكيني،والجمع يعظم أجره، ما الذي يحدث؟!
علي...علي أنا بخير، انظر،فقط كسر بقدمي...
دثروني برداء وحملوني بين الأكتاف،نظرت مرعوبة خلفي، فرأيتها تبتسم لي وهي تحتضن صغيرها آدم،همست:
لا تجزعي يا ابنتي، كلنا فداء للوطن،ملقانا الجنة.
تمت.
بقلمي: سعاد جكيرف
تعليقات
إرسال تعليق