قَدْ تحققت الرُّؤْيَا
ق ق ~ قَدْ تحققت الرُّؤْيَا
الكاتب ~ فاضل العذاري ~ يكتب...
««««««««««««««««««
قَدْ تحققت الرُّؤْيَا
افتَتَحَتْ أُمّه حديثها مساءً بتعويذة: تحاكي بها السماء، على غير عادتها بعدم الإفصاح عن رؤياها إِلَّا في وضح النهار، بينما يصغي لها بانتباهٍ ولهفةٍ وفضول:
-أقصُّ رؤياي للنجوم لكراهة البوح بها ليلا. إِنِّي رَأَيْتُ نَفْسي في المنام: كأنني عروسٌ، تزفني طيورٌ، محلقة في السماء إلى شاب شبيه بأبيك تماما في شبابه رحمة الله عليه، ولا أعلم لماذا كنت أراك تقف أمام منزل جديد رافعا كفك مودعا لي بعد أفول الشمس وبدء حلول الظلام؟
عقّب على كلماتها متفائلاً بالخير:
-ربّما هي من علامات القبول؛ لأننا الآن في ضيافة الرحمن.
ثم خَلَدَتْ إلى النوم حتى مطلع الفجر على سريرها: في شقَّة خاصة من أحد الفنادق المجاورة لبيت الله الحرام. سَاوَرَه الشك واليأس من؛ محاولته الملحة بإيقاظها دون أن تصحو من النوم. رَفَع يدها؛ للتأكد من سلامتها، ولكنها سرعان ما هَوت منه على السرير. فُجِع بتخشب جسدها البارد، وتوقف: قلبها عن النبض، ورئتيها عن التنفس، مع انطباق شفتيها على بعضهما بالكامل. هَرع بسرعة قصوى إلى إحدى الممرضات من ضمن أفراد قافلتهما في اَلشّقَّة المجاورة. جَلبتْ جهاز فحص مستوى السكر؛ صُدم بهبوط قراءته دون الثلاثين. طَلبتْ منه الاتصال فورا بالإسعاف؛ لنقلها إلى المشفى. رَبطَ الطبيب قناني المغذيات عبر وريدها في غرفة الإنعاش. رَكن ظهره إلى الحائط في صالة الانتظار: متضرعًا إلى الله أنْ يَمُنّ عليها بالصحة والشفاء. تَذكر كلماتها الأخيرة، ورؤيتها لأبيه المتوفى. بَحث بين وجوه الحجيج الحاضرين: عمَّن يفسِّر الرؤى، ويحسن التأويل. اِسْتَحْضَرَت ذاكرته ذلك اليوم الذي ظهر فيه اسمه: كمرافقٍ لها في لائحة أسماء المقبولين في قرعة الحج. كَمْ كانت فرحتها لا توصف عندما أبلغها بالخبر، وهي في عمر يناهز الخمسة والثمانين عاما؟ في البدء كان صوت ارتطام عكازها على الأرض: يَهُزّ ثقته بقدرتها على أداء بعض المناسك: كالطواف، والمبيت في منى، والوقوف في عرفة، ورمي الجمرات، ولكن بفضل الله، وقوة إيمانهما تمّ إِكْمَال جميع مناسك الحج، وها هما على أعتاب التهيؤ للعودة إلى أرض الوطن بسلام لولا: حدوث هذا العارض الذي أَلَمَّ بهما.
بعد مرور عدة ساعات من زمن الانتظار، خرج الطبيب من غرفة الإنعاش، تقدم نحوه بخطوات وئيدة. ارتعدتْ نبضات قلبه، وأحس بدوارٍ شديد. لَابُدّ أنه سيلقي على مسامعه كلمات تشاطره العزاء.
اقترب منه كثيرا، وضع يده على كتفه. كاد يسقط على الأرض لولا سماع كلمات الطبيب المبشّرة التي أعادت إليه توازنه:
- اطمئن، هي بخير، لقد استعادت وعيها تماما.
دخل غرفتها، قبّل: كفيها، وموضع السجود في جبهتها. ابْتَسَمَتْ في وجهه قائلة:
- سأقصّ عليك رؤيا مرة أخرى.
انتفض ضاحكا:
- دخيلك، دعينا من الرؤى والأحلام.
انفرجت شفتاها قليلا بضحكةٍ خفيفة رافقت كلماتها:
- يجب عليك سماعها.
وضع كفيّه على أُذُنِيه ملاطفا:
- أرجوكِ، لم أعد أطيق تحمل صدمة أخرى.
قالت:
-كن قويا فالموت حق.
مد يده لها قائلا:
- هاتِ يدك لنغادر هذا المشفى.
- لا أغادر المكان حتى أقصها عليك بإيجاز.
أذعن لأمرها طائعًا، مصغيًا لكلماتها بكل انتباه:
-لقد زارني شخص باسم المُحَيَّا في المنام، كاد أن يقبض روحي لولا: أنّه تريَّثَ في الأمر إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّى.
تَبَسَّم، وقبّل قدميها رغم ممانعتها قائلا:
-حَمْدًا لِلَّهِ عَلَى سَلَامَتك، إِنَّمَا الأعمار بيد الله.
على الرغم من شعوره الدائم بالتقصير نحوها ولكنه لم يتوان عن طرح السؤال إن كانت راضية عنه أم لا؟
أجابته بأنها راضية عنه تماما وأعادت ردها على مسامعه للتأكيد ثلاث مرات.
ما أن أمسك بكفها وسار بضع خطوات للخروج معا حتى بدا عليه الارتباك بغتة، وترنح يمينا وشمالا، وسقط منهارا على الأرض مغشيا عليه، سرعان ما هرع عدد من أعضاء الكادر الصحي إلى حمله على السرير لإسعافه وفحصه ولكن قلبه كان قد توقف عن النبض تماما أمام مرأى أمه التي أصيبت بالصدمة والدهشة والذهول من مفارقته الحياة على حين غفلة ودون سابق إنذار؛ عندئذ أحست بصدق رؤياها في المنام حينما كانت تراه يقف على أعتاب مسكنه الجديد يرفع كفه مودعا لها بعد أفول الشمس وبدء حلول الظلام.
فاضل العذاري/ العراق
تعليقات
إرسال تعليق