رسائل من ظلمة السجن
قصة ~ رسائل من ظلمة السجن
الكاتب ~ إدريس أبو رزق ~ يكتب...
«««««««««««««««««
رسائل من ظلمة السجن
كان السجن كئيبًا ومكتظًا، لكنه بالنسبة لعمر كان عالمًا خاوياً يبتلع صرخاته. الزنزانة ضيقة، بها نافذة صغيرة بحجم كفّ اليد. عبر تلك النافذة كان يرى شريطًا ضيقًا من السماء، يشبه الأمل الذي يتمسك به بصعوبة.
"بابا، متى ستعود؟"
كانت الكلمات تلاحقه كأنها حبل يخنقه. تذكر كيف همست بها ابنته سارة يوم اعتقلوه أمام عينيها. كانت في الثامنة فقط، لكنها بدت أكبر من عمرها وهي تشدّ على يده في محاولة يائسة لمنعه من الرحيل.
في إحدى الزوايا، جمع عمر قصاصات من أوراق قديمة استطاع تهريبها من ممر السجن. لم يكن يعرف من أين سيأتي بالحبر، لكنه وجد طريقته. مزج الفحم بالماء ليصنع حبره الخاص.
بدأ يكتب:
"سارة، صغيرتي…"
كل حرف كان يخرج كأنما ينتزع من قلبه. حاول أن يكتب بلا دموع، بلا ألم، لكن الكلمات خانته.
"أنا آسف لأنني رحلت عنك. لم يكن بيدي… لكنّي هنا، أفكر فيكِ كل يوم. سأخبرك عن البحر، وعن تلك اللحظة التي وعدتك أن نذهب فيها معًا لرؤية الموج لأول مرة. انتظري، سنذهب يومًا."
كان شريكه في الزنزانة رجلاً مسنًا يُدعى أبو طارق. كان الأخير هادئًا، لا يتحدث إلا نادرًا. ذات ليلة، التفت إلى عمر وسأله:
"لمن تكتب؟"
"لابنتي."
"هل ستصلها الرسائل؟"
صمت عمر. لم يرد أن يُطفئ نور الأمل الذي أشعله في قلبه بصعوبة. لكنه تمتم أخيرًا:
"لا أعلم… ربما لا، لكني أكتب وكأنها ستصل."
ضحك أبو طارق ضحكة قصيرة، ثم قال:
"الكتابة تجعلنا نعيش. أما من نكتب لهم؟ فقد يكونون أحياء أو أمواتًا، لكن الكلمات تُعيدهم إلينا بطريقة ما."
مرت الأيام، وكبرت كومة الرسائل في الزاوية المظلمة. كانت كل رسالة تروي لسارة شيئًا عن العالم: الشمس التي كان يراها عبر نافذته الصغيرة، الحلم الذي يراوده بالحرية، وحتى الطيور التي تأتي أحيانًا لتقف فوق حافة النافذة، كأنها تستمع إلى صمته.
لكن الرسالة التاسعة كانت مختلفة. كان يخبرها فيها عن ليلة اعتقاله. لأول مرة، كتب عما لم يقله يومًا:
"كانوا يصرخون، وأنا لم أصرخ. كنت أقول لنفسي إنني إن بقيت صامتًا، لن يخافوا. لكن عندما رأيتك، عندما رأيت عينيكِ تملؤهما الدموع، انهار كل شيء في داخلي. سامحيني، لأنني لم أستطع حمايتك."
بعد خمس سنوات من السجن، سرت شائعات عن قرب الإفراج عنه. لم يصدق عمر في البداية، لكن في تلك الليلة، جمع رسائله بحذر ووضعها داخل كيس قماشي صنعه من قميصه القديم.
وحين جاء يوم الإفراج، وقف أمام بوابة السجن مثلما وقف أمامها أول مرة، لكنه لم يكن وحيدًا. في الخارج، كانت سارة تنتظره.
كانت قد أصبحت فتاة يافعة. ركضت نحوه واحتضنته، وعندما سألها:
"كيف عرفتي أنني سأخرج؟"
أجابته بابتسامة مليئة بالدموع:
"أنتَ وعدتني، وكنت أصدق كل كلمة كتبتها."
صُدم. كيف؟ كيف وصلتها الرسائل؟
التفت ليرى أبو طارق يبتسم من بعيد. كان الرجل قد احتفظ بالرسائل المهربة وأرسلها عبر قنوات سرية إلى عائلته.
في تلك الليلة، جلس عمر وسارة على شاطئ البحر. الموج كان يهمس كما في الرسائل. نظرت إليه سارة وسألته:
"ماذا ستكتب الآن، يا بابا؟"
أجابها بصوت دافئ:
"سأكتب عن السماء التي لا تحتويها النوافذ الصغيرة."
من مجموعتي القصصية " أنفاس الوداع " الكاتب إدريس ابورزق
تعليقات
إرسال تعليق