الحب والفيروس
قصة ~ الحب والفيروس
الكاتب ~ د . إبراهيم مصري النهر ~ يكتب...
«««««««««««««««««««««««
الحب والفيروس
فاجأ أبا أحمد ألم شديد بالصدر بعد منتصف الليل، فهرع ابنه أحمد إليه وأسرع به إلى المستشفى القريب. عند وصولهما إلى قسم الطوارئ، كانت الطبيبة الشابة سارة جالسة خلف الكاونتر بمعطفها الأبيض وسماعتها ذات اللون النبيتي حول عنقها، وحولها فريق من الممرضات بزيهن الأخضر.
ما إن تم إدخال والد أحمد حتى بدأت سارة بإجراءات سريعة: طلبت تخطيطًا كهربائيًا للقلب وسحب عينة دم لتحليل إنزيمات القلب، وأعطت المريض جرعة إسعافية من الأسبوسيد وداينيترا تحت اللسان. تصرفاتها بثقة واحتراف أثارت إعجاب أحمد، لكنه لم يستطع تجاهل جمالها البسيط الذي أضاف بريقًا إلى شخصيتها المهنية.
بعد فترة قصيرة، عادت سارة بابتسامة مطمئنة، وقالت:
"الحمد لله، الوضع ليس خطيرًا. هي مجرد ذبحة صدرية خفيفة، وسيكون بخير مع المتابعة والعناية."
شعر أحمد براحة كبيرة، لكن كلماتها الهادئة وابتسامتها تركت أثرًا عميقًا في داخله.
بعد أسابيع قليلة، لم يتردد أحمد في التقدم لخطبتها، وسرعان ما تطورت العلاقة إلى زواج مبني على الاحترام والإعجاب المتبادل. في السنوات الأولى، كان زواجهما يبدو مثاليًا، مليئًا بالسعادة والدعم المتبادل. أحمد كان دائمًا داعمًا لطموحات سارة المهنية، وسارة كانت تفعل كل ما في وسعها لتوفير حياة سعيدة رغم ضغط العمل.
مع مرور الوقت، بدأت حياتهما تتعرض لاختبارات قاسية. بعد عدة محاولات للحمل، انتهت أربعة حالات بالإجهاض، والمرة الأخيرة كانت الأصعب، حيث فقدت سارة رحمها نتيجة نزيف حاد. ترك هذا الحدث أثرًا نفسيًا عميقًا على سارة، وأدخلها في حالة اكتئاب شديد. حاول أحمد دعمها، لكنه وجد صعوبة في الوصول إليها. بدأت المسافة العاطفية بينهما تتسع، رغم جهوده المستمرة لإصلاح العلاقة.
ذات يوم، قال أحمد لسارة:
"نحن أقوى من هذا يا سارة. يمكننا تجاوز كل شيء طالما نحن معًا."
لكن سارة، بنبرة يملؤها الألم، ردت:
"أحمد، أنا لستُ الشخص الذي كنتَ تريد أن تبني معه عائلتك. ربما عليك المضي قدمًا."
لم يتوقف أحمد عن محاولاته، لكن مع الوقت، بدأ يبتعد عن المنزل، محاولًا الهروب من الضغط النفسي. كان يقضي لياليه مع أصدقائه في أماكن لم يكن يذهب إليها من قبل.
ذات ليلة، عادت سارة إلى المنزل ولم تجده. قررت مراقبته، حتى اكتشفت أنه يرتاد ملهى ليليًا بانتظام. عندما عاد تلك الليلة، كان منهكًا، يعاني من الحمى والسعال. أصرَّت على نقله إلى المستشفى لإجراء الفحوصات.
بعد إجراء الأشعة وتحاليل البصاق، تم تشخيصه بمرض الدرن الرئوي. وكجزء من الإجراءات الروتينية، أُجري تحليل فيروس نقص المناعة المكتسبة (HIV)، وهنا كانت الصدمة الكبرى: التحليل إيجابي.
واجهت سارة أحمد بالنتيجة، وبعيون ملأتها الدموع صرخت:
"كيف فعلت هذا بنا؟! كنتُ أظنك سندي، لكنك خنتني بهذه الطريقة؟!"
حاول أحمد الدفاع عن نفسه:
"سارة، أنا لم أفعل شيئًا كهذا. أنا لا أعرف كيف حدث هذا!"
لكنها لم تستمع إلى مبرراته. طلبت الطلاق فورًا، وخرجت من حياته وهي تشعر بالخيانة والانكسار.
بعد شهرين من الطلاق، بدأت سارة تعاني من أعراض غريبة: فقدان الوزن، تعب دائم، وتقرحات في الحلق. زارت طبيب الأنف والأذن الذي أخبرها بأنها مصابة بفطر الكانديدا الانتهازي، ما دفعه لطلب فحص فيروس نقص المناعة.
في اليوم التالي، جلست أمام الطبيب الذي قال بصوت مثقل بالأسف:
"للأسف يا سارة، نتيجة الفحص إيجابية. يبدو أن الفيروس موجود في جسدك منذ فترة طويلة."
همست بصوت مرتعش:
"لكن... هذا مستحيل. زوجي السابق هو السبب."
رد الطبيب بحذر:
"ربما لا. بناءً على التحاليل، يبدو أن العدوى كانت موجودة لديك قبل زواجك. هل تلقيتِ نقل دم أو أجريتِ جراحة قبل ذلك؟"
تذكرت سارة فجأة عملية الإجهاض الأخيرة عندما كانت تنزف بغزارة. سمعت الطبيب حينها يسأل عن تحليل الفيروسات، لكن الممرضة أجابته بأنها لم تجد الوقت لإجرائه. أدركت أن العدوى ربما انتقلت إليها في تلك اللحظة.
قررت سارة مواجهة أحمد بالحقيقة. ذهبت إليه في المستشفى، ووجدته جالسًا شاحب الوجه. اقتربت منه وقالت بصوت يملؤه الحزن:
"أحمد، أريد أن أعترف بشيء. العدوى لم تأتِ منك. أنا من نقلتها إليك دون علمي."
نظر إليها بدهشة، ثم ابتسم ابتسامة حزينة وقال:
"كنتُ قد سامحتكِ من قبل أن أعرف الحقيقة."
غمرتها دموعها، ومدَّ يده ليُمسك بيدها. خرجا من المستشفى معًا، وقد عادت بينهما رابطة أعمق من الحب: رابطة المغفرة والتفاهم. أدرك كلاهما أن الحب الحقيقي يمكنه الصمود أمام أقسى الظروف، حتى لو كانت بحجم فيروس.
د. إبراهيم مصري النهر
تعليقات
إرسال تعليق