عند مفترق الأنفاس



 قصة ~ عند مفترق الأنفاس

الكاتب ~ إدريس أبو رزق ~ يكتب..

«««««««««««««««««««

عند مفترق الأنفاس


في غرفة العناية المركزة بمستشفى قديم، كانت الأنوار البيضاء الباهتة تنعكس على وجوه المرضى كأنها تحكي عن رحيل وشيك. في زاوية بعيدة من الغرفة، كان سريران متجاوران. على الأول، كان يرقد رجل في السبعينات من عمره، جسده الهزيل تحيط به أنابيب الحياة الصناعية. اسمه سعيد، وقد أمضى أشهرًا هنا بعد أن انهك قلبه صراع طويل مع المرض.


على السرير الآخر، شاب في الثلاثينات يدعى أمجد، وقد استفاق للتو من غيبوبة طويلة إثر حادث سير مروّع. عيونه تتحرك ببطء وهو يحاول فهم أين هو. في صمت الغرفة، كانت الأنفاس الميكانيكية لأجهزة التنفس تختلط بأنفاس ضعيفة، كأنها ترسم معزوفة عن صراع الحياة والموت.


- "متى استيقظت؟"

التفت أمجد، ليجد سعيد ينظر إليه بعينين منهكتين. لم تكن نبرته حادة، بل أشبه بظل صوت، كأنه يصارع الزمن لينقل كلماته.


- "لا أدري... ربما للتو. ماذا حدث لي؟"

- "لا يهم الآن. نحن هنا... في محطة مؤقتة."


ابتسم سعيد بخفوت، تلك الابتسامة التي تخفي خلفها وجعًا لا يُرى. شعر أمجد بغرابة الموقف، لكنه لم يستطع التحدث أكثر، وكأن شيئًا ثقيلًا يحيط بكلماته.


مع مرور الليل، بدأت المحادثة تتعمق، ليس عن المرض أو الألم، بل عن المعنى. كان سعيد يتحدث وكأنه يعرف أمجد منذ سنوات، يعرف خوفه، يعرف حسرته على أيام لم يعشها كما يجب.


- "أتعلم، الحياة ليست كما نظنها. نركض خلف أشياء كثيرة، ثم فجأة، نجد أنفسنا هنا. بين الأنابيب والأجهزة، نفكر: هل كانت تستحق كل هذا العناء؟"

- "وأنت... هل تستحق حياتك أن تُعاش مرة أخرى؟"

ابتسم سعيد، لكن عينيه ارتعشتا. - "ربما لا. لكنني حاولت. لم أنجح في كل شيء، لكنني أحببت. أحببت كثيرًا. وهذا يكفي."


أمجد صمت طويلًا، وبدأ يتأمل: حطام سيارته، الذكريات التي فقدها، والفرص التي كان يهرب منها. لأول مرة شعر بأنه أمام مرآة تعكس مخاوفه دون خجل.


مع اقتراب الفجر، بدأ جسد سعيد يضعف أكثر، وصار حديثه متقطعًا. لكنه التفت إلى أمجد للمرة الأخيرة.

- "حين تخرج من هنا، لا تخف. الحياة ليست طويلة بما يكفي لتحمل هذا الخوف. إذا كنت تحب، قُل. إذا أردت أن تحلم، احلم. وإذا أردت أن تبدأ من جديد... افعل. كل شيء يستحق المحاولة."


لم يرد أمجد، لكنه شعر بغصة في صدره.


عند الصباح، دخل الطاقم الطبي مسرعًا إلى الغرفة. كانت الأجهزة المحيطة بسعيد تصدر صوتًا حادًا، معلنةً النهاية. توقف قلبه. حاولوا إنعاشه، لكنهم لم يفلحوا.


أما أمجد، فجلس على سريره بصمت، عيناه مغرورقتان بالدموع. لم يستطع تفسير شيء، لكنه شعر وكأن كلمات سعيد كانت رسالة أخيرة وُجهت له وحده.


في الأيام التالية، خرج أمجد من المستشفى، لكنه خرج بروح جديدة. كلما واجه الحياة، كان يتذكر حديث سعيد، وكلماته التي بدت كأنها وصية من شخص عبر الجسر ولم يعد.


أما سعيد، فقد دفن بعيدًا عن الأنظار، بلا مشيّعين، إلا أن أمجد قرر أن يزوره كل عام، ليحكي له عن حياة عاشها بتلك الجرأة التي تعلمها على سرير الموت.


من مجموعتي القصصية " أنفاس الوداع " الكاتب إدريس ابورزق

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنَّى لي بعِمَامةِ أبي

الحمل الوديع

أشواك للبيع