مذكرات الخروف "نديم"
ق.ق ~ مذكرات الخروف "نديم"
الكاتب ~ إدريس أبو رزق ~ يكتب...
«««««««««««««««««««««
مذكرات الخروف "نديم"
أنا "نديم"، خروف أبيض بصوف كثيف يتخلله رمادي كخيوط الغروب. أعيش في هذا الحقل منذ ولادتي، أسير في القطيع، آكل العشب، وأراقب العالم بصمت. الناس دائمًا ينظرون إلينا وكأننا مجرد كائنات بلا وعي، تقتات العشب وتنتظر مصيرًا معلومًا. لكن ما لا يفهمونه أننا نرى ونعرف أكثر مما يظهر.
أول من ربطتني به علاقة كانت "ياسمين"، الفتاة الصغيرة التي اعتادت أن تزور الحقل بعد المدرسة. كانت تقترب بخطوات خجولة، تمد يدها بقطعة خبز جافة، تضعها أمامي، ثم تجلس بجانبي وهي تحكي. لم تكن تعرف أنني أفهم كلماتها، لكنها كانت تحدثني كأنني صديقها الوحيد.
"أبي لا يستمع لي، وأمي مشغولة دائمًا." كانت تقول بصوت منخفض، وأشعر بشيء في قلبها يُشبه العشب الجاف، قاسٍ لكنه يحتاج لقطرة ماء. كنت أقترب منها برأسي، كأنني أخبرها: "لست وحدك يا صغيرة، فأنا أيضًا أعيش بينهم ولا يسمعونني."
أيامي تسير على وتيرة واحدة، لكنه ليس مللًا كما يظنه البشر. الحياة في القطيع مليئة بالدروس. فنحن لا نتشابه كما يعتقدون. هناك "سالم"، الخروف القوي، الذي يقودنا بجرأة كلما تغيّرت الأماكن، و"سعد"، الذي يخاف من الريح وكأنها تحمل تهديدًا خفيًا. وحتى بيننا، نعرف الحب والخوف، نتجاور تحت الشمس ونفزع معًا من الخطر.
لكن علاقتي بالبشر أكثر تعقيدًا. إنهم الكائنات الوحيدة التي أراها تتصرف بتناقض مستمر. يأتي الراعي صباحًا بابتسامته الكبيرة، ينادينا وكأننا جزء من عائلته، ولكنه أيضًا يقرر مصيرنا دون أن يسأل.
أتذكر جيدًا ذلك اليوم الذي قُتلت فيه أمي. كنت صغيرًا حينها، ألعب بجانبها. أتى الراعي وناداها بهدوء. سار بها بعيدًا، ولم تعد أبدًا. نظرت إلى القطيع يومها، وكان الجميع يتظاهر أن شيئًا لم يحدث. أدركت منذ ذلك الحين أن الخوف الذي يختبئ في عيوننا لا ينتهي أبدًا، لكننا نعيشه بصمت.
في أحد الأيام، سمعت الراعي يتحدث مع ابنه عن "الأضحية". كان يشير إليّ، وأنا أقف قرب السور أراقبهم. لم أفهم كل شيء، لكني شعرت بالثقل في كلماتهما. رأيت ابن الراعي يسأل: "هل يعرف الخروف ما يحدث له؟" ضحك الأب وقال: "الخروف مخلوق بسيط، لا يفكر ولا يشعر."
لو كان بإمكاني، كنت سأقول له: "نعم، أنا مخلوق بسيط، لكنني أرى في عيونكم خوفًا يشبه خوفي. وأعرف أنكم أيضًا تخافون من النهاية، مثلما أخاف أنا."
قبل يوم من العيد، جاءت "ياسمين" إلى الحقل. بدت حزينة بطريقة لم أفهمها. اقتربت مني وألقت بنفسها بجانبي، ثم قالت بهدوء: "لا أريدك أن تذهب، نديم. لماذا يجب أن يكون الأمر هكذا؟" وضعت يدها على صوفي الأبيض، وبكينا معًا، بطريقتنا.
عندما جاء اليوم الكبير، كنت مستعدًا. ليس لأنني لا أخاف، بل لأنني أعرف أن قدري مكتوب مثل أقدار البشر الذين يقررون حياتنا. شعرت بيد الراعي تمسك بي، نظرت إلى القطيع للمرة الأخيرة، ورأيت في عيونهم صمتًا لا يمكن تفسيره. ربما كانوا يقولون وداعًا، أو ربما كانوا يحاولون ألا يشعروا بأي شيء.
في تلك اللحظة، لم أعد خروفًا يقاد نحو نهايته. كنت شاهدًا على إنسانية فقدت بساطتها، وعالم يُخفي الحقائق خلف عادات وطقوس. وربما، بطريقة ما، كنت أنا المخلوق الذي تقبل الأمر برضا لا يستطيعون تحقيقه.
"أنا نديم، الخروف الذي يعرف أن الحقول ليست أبدية، وأن الراعي ليس دائمًا صديقًا. ومع ذلك، عشت حياتي كما هي، مليئة بالرعي والصمت والحكايات التي لا تُقال
" رسائل من كائنات منسية " سلسلة في حلقات بقلم الكاتب : إدريس ابورزق
تعليقات
إرسال تعليق